نحو مليونين وستمائة ألف طفل سوري تغيبوا هذا العام عن المدرسة إلى جانب ثلاثة ملايين وستمائة ألف محرمون من التعليم في المخيمات.
جاء في آخر تقرير صادر عن منظمة اليونيسف في نهاية أكتوبر الماضي، أن نحو مليونين وستمائة ألف طفل سوري قد تغيبوا هذا العام عن المدرسة، إلى جانب ثلاثة ملايين وستمائة ألف محرمون من التعليم في مخيمات اللجوء، وأن ما يقرب من مليوني طفل عراقي هم اليوم خارج المدرسة، كما أن أكثر من مليون طفل آخر مهددون بالتسرب من التعليم، بما ينذر بفقدان جيل كامل في هذين البلدين، وأن آلاف المدارس في البلدين قد دمرت بالكامل أو تحولت إلى مأوى للمشردين... ولا أعتقد أن الأمر يختلف كثيرًا عن هذه الصورة المخيفة في أقطار عربية أخرى، بسبب احتدام الصراعات السياسية والعسكرية داخلها، التي غالبًا ما يدفع ثمنها الأطفال الذي يحرمون في غالبيتهم العظمى من التعليم.
إن المشكلة أنه، وحتى بعد انتهاء الحروب والصراعات، يمكن إصلاح كل ما هو مادي من النتائج المدمرة التي حلت بهذه البلدان، ولكن لا يمكن تدارك الضرر الحاصل في مجال التربية والتعليم؛ لأنه يكون قد أثر بعمق في جيل كامل من المواطنين العرب، على الأصعدة النفسية والسلوكية والمعرفية، ولتلك كارثة حقيقية، تؤشر إلى حجم التدمير الذي مس هذه البلدان وشعوبها، كنتيجة طبيعية للفوضى التي عمتها، ضمن سياق ما سمى بالربيع العربي، في المقابل، فإن العدو الإسرائيلي، يحقق تقدمًا مضطردًا على هذا الصعيد، بما أسهم في توسيع الفجوة القائمة بيننا وبينه، ونستذكر في هذا السياق ما أشار إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو" في مقابلة له مع التلفزيون الإسرائيلي عقب انتصار اليمين في آخر انتخابات تشريعية، بأن قوة الدولة اليهودية تعود بالدرجة الأولى إلى قوة التعليم فيها: "إذا كانت الدول العربية التي من حولنا تمتلك الثروات الطبيعية والبترولية، فإننا في إسرائيل نستطيع أن نحسم الصراع لصالحنا عن طريق التعليم، وعن طريق الثروة البشرية المدربة التي امتلكناها بإتاحة التعليم والتعليم العالي لكل فتى وفتاة إسرائيلية، وبما يتلاءم مع تغيرات العصر".. كما تضمن خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي في ذات المناسبة التأكيد على التزام حكومته "بتحسين مركز طلبة إسرائيل على صعيد العالم في العلوم والرياضيات، بما يجعلهم ضمن المراكز العشر الأولى في العالم". تأكيدًا لما للتعليم من مكانة بارزة في الفكر الإسرائيلي، باعتباره قوة الحسم الأولى والرئيسة في المواجهة الحضارية الشاملة مع العرب ... يحدث ذلك في إسرائيل التي تخوض حروبًا عدوانية ضد العرب منذ نشأتها وإلى تاريخه، وتوجه حوالي 30٪ من دخلها القومي للقوة العسكرية، ومع ذلك لم تجعل التعليم في مؤخرة الأولويات، بل تمتلك اليوم 55 مؤسسة للتعليم العالي، منها8 جامعات كبرى ومعهد للأبحاث، وجامعة مفتوحة للجميع بالمجان، و23 معهد لتأهيل المعلمين، و24 كلية أكاديمية، وتدرس هذه المؤسسات أكثر من 500 تخصص علمي، ويبلغ عديد طلبتها في هذه الجامعات والمعاهد حوالي 300 ألف طالب وطالبة، وتحتل الدولة العبرية المرتبة الـ15 على صعيد العالم لجهة أبحاثها المنشورة في العلوم البحتة والتطبيقية، وتحتل مراكز متقدمة في أبرز التصنيفات العالمية للجامعات، كتصنيف معهد شنغهاي، وتصنيف كيو إس، كما تنفق ما مقداره 4.7٪ من دخلها القومي على البحث العلمي، في حين إن هذه النسبة في أغلب البلدان العربية لا تصل إلى 1% في أحسن الأحوال.
أما إذا نظرنا إلى التجارب الناجحة في العالم، ونماذج التنمية الناهضة، والتي برزت في العقود الماضية، شرقًا وغربًا، فنجد أن نجاحها كان من بوابة التعليم، وإذا نظرنا إلى الدول الكبرى التي تتصارع على القمة اليوم نجدها تطور من نظم تعليمها باستمرار، وتحاول الاستفادة من نظم التعليم الناجحة في العالم، وتوجه معظم جهودها لهذا الغرض، باعتبار التعليم مولدًا للثروة والقوة، ومازلنا نذكر كيف أهمية التقرير الأمريكي الأكثر شهرة "أمة في خطر"، الذي قدمه الرئيس الأمريكي السابق "رونالد ريغان" في العام 1983م، والذي كان بمثابة ناقوس الخطر حول واقع التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية ومرتبته في التصنيف العالمي، حيث احتل الطلاب الأمريكيون مراكز متأخرة في العلوم والرياضيات وقواعد اللغة، مما استنفر القيادة الأمريكية لإحداث النقلة النوعية في النظام التعليمي على كافة الصعد: المحتوى والمعايير والتوقعات والوقت والقيادة والموازنات.. كما نستذكر أنه وفي بداية الألفية الثالثة، في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش" الابن، صدور تقرير آخر بعنوان "أمة مازالت في خطر"، ركز على ضرورة تطوير التعليم، باعتباره صمام الأمان ومصدر القوة والإبداع والنهضة والتفوق، بما يجعله مركز قضية الأمن القومي.
إلا أن الوضع الراهن في عدد من بلاد العرب، يعود إلى ما نراه من ضعف الوعي بأهمية التعليم ودوره في النهضة والبناء والصراع من أجل الوجود، وتكريس الجدارة العلمية على الصعيد الدولي، وضعف الإدراك بأن التربية في حسابات الدول، عملية ارتقائية، لتجديد الذات الثقافية والاجتماعية للدولة والمجتمع، وتحصينها ضد عوامــل الوهن والمرض المعطِّل لحيوية الأمــــم والشــــعوب، حيث أدْرَكَتْ كل القوى العظمى في عالمنا هذه الحقيقة، ونظرت إلى التربيـــة من حيث هي خط الدفاع الأول والخفيّ لوجود الأمــــم والشـــــعوب، والتاريخ المعاصر يعطينا العديد مـن الشـواهد علـى صـدق هــذا الإدراك، إلا أن معظم العرب يتحركون في اتجاه معاكس لهذا التيار العالمي، ولذلك يعانون من ضعف بالغ على كافة المستويات، بما جعل الوطن العربي من أكثر مناطق العالم انتشارًا للأمية، وتراجعًا في مستوى الخدمات العامة؛ إذ يتجاوز عدد الأميين العرب حاليًا المائة وعشرين مليونًا، بحسب إحصائيات منظمة اليونسكو للعام 2013م، أي بما يشكل نسبة 30٪ من السكان، هذا فضلًا إلى ما أشرنا إليه في المقدمة من وجود ملايين الأطفال خارج المدارس.
هكذا تجري الأمور في بلاد العالم التي تعي أبعاد قوة التعليم ودوره، وهكذا تجري في بلاد العرب، التي تحول فيها التعليم في الغالب الأعم إلى خدمة ثقيلة، وعبء تتحمله الدولة بصعوبة بالغة، بل إن بعض حكومات الإصلاحات الهيكلية قد اعتبرت التربية والتعليم من القطاعات الاجتماعية المكلفة وضعيفة المردودية؛ لأنها تنطلق من فهم قاصر للتنمية، وسبل الاستثمار في الموارد البشرية، فبدلاً من أن يكون التعليم قوة الدفع الرئيسة للتنمية، نراه يتحول إلى حالة هلامية تتولى الدولة الإنفاق عليها في حدود منخفضة، لتخريج أشباه المتعلمين الذين يظل أغلبهم جالسًا على رصيف البطالة الفعلية، أو على كراسي البطالة المقنعة لسنوات طويلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة