بعد ضجيج مفاوضات أديس أبابا، وتدليس باريس، عادت القوى السياسية السودانية، نظاماً ومعارضة، إلى مستنقعها السياسي، راضية مرضية
بعد ضجيج مفاوضات أديس أبابا، وتدليس باريس، عادت القوى السياسية السودانية، نظاماً ومعارضة، إلى مستنقعها السياسي، راضية مرضية. لكن البلاد تستمتع بصمت سياسي مريح، سببه الحيرة التي اجتاحت الساسة والزعامات الخشبية، بعدما أهدرت كل فرصها وأحلامها. فهي لم تعد في جعبتها أكاذيب جديدة، وهي الآن تعمل على سكّ أحاديث مختلقة لمرحلة ما بعد هجعتها السياسية الراهنة. وهي في حقيقة الأمر، انتقلت من حالة سيولة سياسية إلى صحراء فراغ سياسي خانق، يمهّد للفوضى الآتية. فالسودان يعيش أوضاعاً تتدهور بسرعة هائلة، ما سيؤدي بالضرورة إلى فوضى شاملة تفوق ما سبقها من «فوضات» صغيرة وقصيرة. فقد تعوّد السودانيون على أن يوصلوا الأمور الى حافة الكارثة، لكن بسبب موقع السودان الاستراتيجي، تنتبه دول الإقليم والعالم ذات المصلحة الى الخطر، فتسارع بالتدخل بطرق مختلفة. فقد عوّل السودانيون على دور الوسيط الخارجي، وتدخل «الحادبون» على مصلحة البلاد. وخير مثل للدور الخارجي، كان مشكلة الجنوب: فقد حمل الاتفاق الأول اسم «أديس أبابا» عام 1972، وعُرف اتفاق «السلام الشامل» باسم «نيفاشا». وفي أزمة دارفور، كانت اتفاقات «أبوجا» و «الدوحة» و «أنجمينا».
لكن الأوضاع الراهنة اختلفت كثيراً، فالإقليم حولنا محاصر بمشكلاته الخاصة وصراعاته الداخلية، والمجتمع الدولي مشغول بمحاربة الإرهاب، والهجرة والأزمات الاقتصادية لدوله الجنوبية. لذلك، لم يعُد السودان أولوية، ولا مثار اهتمام رئيسي.
وتشير ظاهرة التعويل على العامل الخارجي في العمل السياسي السوداني، إلى غياب الإرادة السياسية الذاتية. وفي الوقت نفسه، إلى عدم قدرة الأطراف السودانية، ممثلة بالأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، على الاتفاق على رؤية قومية شاملة تمثل الحد الأدنى المشترك لكل المواقف. فالواقع السياسي ظلّ يفتقد منذ الاستقلال، ما يسمى بـ «روح الأمة»، حيث يتّفق كل المواطنين ويُجمعون على قضية وطنية واحدة، مترفعين عن الخلافات الحزبية بإعلاء قيمة الوطن.
وكانت تجربتا ثورة تشرين الأول (أكتوبر) 1964، وانتفاضة نيسان (أبريل) 1985، استثناءً قصير العمر. لكن الساسة وقيادات المجتمع المدني غرقوا مجدداً في خلافات شخصية تافهة، وعادوا الى ممارسة أخلاق التشرذم والانقسامات التي ميّزت النخبة السودانية منذ مؤتمر الخريجين في الأربعينات.
ويبقى المشهد السياسي الحالي صورة فسيفسائية متنافرة تسودها الفوضى والنشاز. ومع ضيق حلقات الأزمة، وتعدّد أشكالها وتمظهراتها اليومية، تزداد حدّتها الاقتصادية، حيث يعاني المواطنون ظروفاً معيشية متدنية، وفقراً مدقعاً، وبطالة. أما الأزمة السياسية، فتجلّت في العجز المتبادل وصراع الضعفاء، بعدما اتضح وهن الحزب الحاكم، ما أغضب الرئيس فشبّهه بالاتحاد الاشتراكي في عهد نميري، وأنه يعتمد فقط على الحكومة.
أما الحركة الإسلامية، فتحوّلت لافتة تُرفع في المواسم فقط. وعبرت قياداتها عن أنه لا المؤتمر الوطني ولا الحركة الإسلامية يحكمان البلاد، فهناك قوى أخرى تحكم. وهذا تلميح الى استفراد الرئيس، والعسكريين، والأمن، بالسلطة الفعلية.
وأمّا الأزمة الأمنية، فتتمثل بعدم قدرة الدولة الفاشلة على السيطرة على كامل ترابها الوطني، حيث صارت أجزاء طرفية كبيرة تحت رحمة الحركات المسلّحة. وللمرة الأولى، تعالت دعوات تقرير المصير بين أبناء جبال النوبة، كما أن استفتاء دارفور الرسمي سيشجّع مطالب مماثلة.
ومن مظاهر أوضاع الفوضى السياسية الأخرى، محاولات النظام الخروج من الأزمة، عبر انطلاقة «الحوار الوطني» في الداخل. فقد استدعى النظام حشوداً متنافرة، ولم يحلّ تشكيل عدد من اللجان معضلة التنافر والارتباك، لكن هذه اللجان نفسها تحولت منابر خطابية كشفت عن أفكار متوازية لا تلتقي. وتشعب الحوار في قضايا تجريدية، مثل الهوية والتعددية الثقافية والحريات. فقد استعان النظام بمتعاطفين أو متواطئين، مطلقاً عليهم صفة «شخصيات قومية». كما جاء الحوار من دون تهيئة أجواء تجعله حراً وديموقراطياً، كذلك لم تُحدد غاياته وأهدافه. ويصرح المسؤول السياسي لحزب المؤتمر الوطني، بأننا جئنا من أجل الحوار وليس لتقاسم السلطة، فيما مسار الحوار الراهن ينبئ ببؤس نهاياته.
ومن ناحية أخرى، هرع النظام الى آخر مسانديه: الدول الأفريقية التي تحمي رئيسه من المحكمة الجنائية الدولية. لذلك، سارع بقبول وساطة «الآلية الأفريقية الرفيعة المستوى»، والتي كان قد رفضها قبل أسابيع قليلة. لكن الوساطة الأفريقية أعلنت بعد أيام، تعليقاً للمفاوضات بين الحكومة والحركات المسلّحة، إذ عجزت عملية التفاوض المنهارة عن مناقشة قضايا إيصال المساعدات الإنسانية ووقف العدائيات، إلى جانب الاجتماع التحضيري الخاص بالحل السياسي السلمي.
يكتمل الفراغ السياسي بالغياب الكامل لمعارضة فعّالة. فقد احتمت المعارضة بالاتحاد الأوروبي، فاستضافت باريس اجتماعاتها خلال 10-13/11/2015، وخرج المجتمعون ببيان يتحدث عن «انتصارات» وهمية حققتها المعارضة، أولها، حملة «إرحل» والتي لم ير الشعب السوداني لها أي تأثير في الشارع منذ انتهاء الانتخابات. وثانيها، «تعرية حوار الخرطوم في 10 أكتوبر»، والانتصار الثالث كان «الفرصة التي أتيحت لنا لكي نخاطب مجلس السلم والأمن الأفريقي».
وانفضّ اجتماع باريس وسط انقسامات عاصفة، تجعل من الصعب التوحد، بخاصة بعد الحديث عن استقالة رئيس قوى الإجماع الوطني. وأوردت الأنباء وجود تحركات لإنشاء تحالف معارض جديد يتكون من 40 حزباً سياسياً، يتم الإعلان عنه قريباً. كما أكد قيادي في حزب الأمة صحة تشكيل التحالف الجديد، وسيضم قوى نداء السودان وحركة الإصلاح وتحالف قوت.
كان من المفترض مع ضعف الأحزاب السياسية وانقسام المعارضة، أن يكون البديل مجتمعاً مدنياً مؤثراً ونشطاً، كما حدث في بولندا مع منظمة تضامن. لكن المجتمع المدني السوداني، اختطفته واحتكرته أقلية أو شلل نخبوية، بحيث أصبحت شبهات الفساد تلامس قياداته. ولم يساهم المجتمع المدني في تربية كوادر شابة، بل على العكس، ربى عدداً من الشابات والشبان وفق العقلية التعيسة التي أوصلت البلاد الى ما هي عليه الآن.
والآن، تغيب كل قوة قادرة على إحداث التغيير: فالأحزاب متشرذمة، والتحالفات المعارضة تحكمها الطموحات الشخصية، والمجتمع المدني عاطل ينشط فقط في جلب المنح والسياحة السياسية. لقد اكتمل الفراغ السياسي، ودخلت البلاد في دائرة فوضى جديدة ستنتهي بتقسيم ما تبقى من الوطن. فالمسرح مكتمل لانهيارات تفوق مآلات ليبيا وسورية والعراق واليمن، لأن السلاح منتشر في البلاد، إضافة الى الغفلة السياسية وتدجين الجيش الوطني وانتهازية المجتمع المدني.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة