كما كان متوقعاً،خرجت موازنة السعودية هذه المرة خالية من الدهون؛لتشير بوضوح إلى أنها تتجه بقوة إلى وضع قدميها نحو تغيير جلدها الاقتصادي
كما كان متوقعاً، خرجت موازنة السعودية هذه المرة خالية من الدهون والشحوم؛ لتشير بوضوح إلى أنها تتجه بقوة إلى وضع قدميها نحو تغيير جلدها الاقتصادي، والتعامل مع المتغيرات في الأسواق العالمية، وما يتطلبه من شد الحزام والتعامل بحزم مع الوضع الاقتصادي، إذ يحقق المعادلة بتحقيق التنمية وحاجات المواطن. وحملت الموازنة إيرادات بلغت 513 بليون ريال، فيما سجلت المصروفات 840 بليون، أما العجز في الموازنة فسجل 327 بليون ريال.
يجب أن نعترف أن بلداً مثل السعودية، يواجه أعباءً دوليةً وإقليميةً، إضافة إلى محاربته الإرهاب كلفته الكثير من خزانته، فالوجود الحوثي في اليمن كان -ولا يزال- يشكل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره، ولاسيما أن الموضوع واضح جداً، ألا وهو رغبة إيرانية في خلق بلبلة وزعزعة للأمن والاستقرار في دول المنطقة، فجاءت «عاصفة الحزم» و«إعادة الأمل» وما ترتب عليه من تشكيل تحالف عسكري لمواجهة هذا المد، تأكيداً على أن هذه العمليات استنزفت خزانة الدولة لتحقيق الأمن والاستقرار للبلاد.
وفي المقابل، أيضاً أدى خروج الجماعات الإرهابية إلى استهداف وتنفيذ الأعمال التخريبية. هذا الموضوع كان يقلق السعوديين بشكل لافت، بعد أن برزت قضية خطف الشبان والمراهقين وضمهم إلى هذه الجماعات الإرهابية، فضلاً عن القبض على الكثير من الأسلحة والأموال التي وجدت لديهم.
السعودية أخذت مكافحة الإرهاب على عاتقها، وامتداداً لهذا التفوق الأمني، أنشأت تحالفاً إسلامياً عسكرياً، وكان لا بد من أن تقف السعودية بكل قوة وحزم، وتجهيز أمنها بكل الوسائل التقنية، إذ أنفقت الدولة على المشاريع الأمنية 20 بليون ريال. أما الموضوع الأهم الذي كان المحرك الرئيس للتفكير بجدية نحو تغيير مصادر الدخل، فهو التراجع الحاد لأسعار النفط في الأسواق العالمية، حتى وصل سعر برميل النفط إلى ما دون 40 دولار، وليس هذا فحسب، بل أيضاً تراجع الطلب، بعد أن سجلت المخزونات الاحتياطية فائضاً كبيراً، وكذلك عدم ثبات الدول المنتجة للنفط ما بين زيادة الإنتاج أو توحيد الأسعار، وأسهم في تفاقم الأزمة سيطرة الجماعات الإرهابية على مدن النفط في العراق، وسورية، وليبيا، وبيعها بأسعار منخفضة جدا، وهذا الأمر تسبب في بيع كميات كبيرة وتأثيرها في الأسواق العالمية.
كان لا بد للسعودية من أن تتحرك في كل الاتجاهات؛ لعمل توازن في مصادر دخلها ومواجهة متطلبات شعبها وتنمية بلدها، بعد هذا التراجع الكبير في الطلب على النفط وعدم استقرار سعره، وهذا يعني أن سوق النفط ستبقى سنوات ليست قليلة في انخفاض حاد، وفي زيارة تاريخية إلى الولايات المتحدة قرر الملك سلمان فتح الأسواق المحلية في قطاعات الخدمات والتجزئة أمام الشركات الأجنبية، وهذا يعني دخول استثمارات جديدة، ولاسيما أنها تقف على أرض صلبة ويتطلب تقديم الكثير من التسهيلات.
داخلياً سعت الدولة إلى تحسين سوق الأعمال الريادية، وتشجيع الأنشطة الصغيرة والمتوسطة، فأنشأت جهاز توليد الوظائف، وعدلت الكثير من الأنظمة التي تتعلق بسوق العمل.
على رغم الظروف المالية التي تعيشها خزانة الدولة إلا أنها لم تغفل عن إبقاء سقف دعم الصناديق الحكومية عالياً، وخصص لها نحو 50 بليون ريال، تشمل: الصناديق الصناعية، والزراعية، والعقارية، والتسليف. واللافت أن الأجور والبدلات وما في حكمها، لا تزال تشكل عبئاً كبيراً على خزانة الدولة، وأيضاً تلتهم نصف موازنة الدولة، وبحسب البيان فإن 450 بليون ريال تذهب في صرف المرتبات لموظفي الدولة، وهو ما يتطلب التفكير بجدية في خصخصة مؤسسات الدولة، مثل: الخطوط السعودية، بعض إدارات الأمانات، البريد، والسياحة، والصحة، ومؤسسات أخرى، حتى تستطيع تحويل الموظفين فيها إلى القطاع الخاص مع تقديم خدمات جيدة للمواطنين، كما حدث مع الهاتف، والكهرباء، والمياه، وهذا يحتاج إلى التفكير بجدية بسرعة تنفيذها.
كما شملت الموازنة رفع الدعم عن المنتجات النفطية، وهذه كانت أحد المطالبات السابقة، وتقنينها بشكل يسمح بوصول الدعم إلى المستفيد الأول، ويمكن أن تسهم الجمعيات الخيرية، ومؤسسات المجتمع المدني في الإسهام في تحديد المستفيدين الفعليين، ولاشك في أن رفع الدعم سيؤدي إلى انفلات الأسعار بشكل غير واضح، وهنا يحتاج من وزارة التجارة والجهات الرقابية إلى ضبط الأمور، وحتى لا يساعد في ظهور جشع من التجار، ولا سيما أن زيادة أسعار الوقود ليست بالقدر الكبير التي تفتح شهية التجار لرفع الأسعار، ويجب أن يكون شغلنا الشاغل في المرحلة المقبلة هو كيف نستعيد توازن إعادة الدخل عما كان عليه في عهد النفط، وعلى المؤسسات الحكومية وجميع أجهزتها أن تفعِّل دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتعيد إليها هيبتها كما هو موجود في معظم الدول، إذ إنها تسهم في الناتج المحلي بنسبة 70 إلى 90 في المئة، كما أنها تخلق فرص عمل، وتحسن من مستوى الدخل للطبقات البسيطة، وتزيد من نسبة الطبقة المتوسطة.
موازنة هذا العام هي تحد كبير للسعودية، إما أن تنجح في «كبح جماح» إنفاقها، وتحسن أجهزة الرقابة المالية، وتنفذ مشاريع وتتابعها. كما أنها فرصة لإعادة النظر في المشاريع الصغيرة، وتسهيل إجراءاتها، وخلق فرص عمل.
ومن الواضح - كما قال الملك سلمان في خطابه في مجلس الوزراء في إعلان الموازنة- أننا في أول الطريق نحو اقتصاد قوي بعيد عن النفط.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة