يبدأ أستاذنا الدكاترة حامد عبدالله ربيع رحمة الله عليه كتابه «نظرية الأمن القومى العربي،الصادر 1984» بعبارة تصف حالنا اليوم
يبدأ أستاذنا الدكاترة حامد عبدالله ربيع رحمة الله عليه كتابه «نظرية الأمن القومى العربي،الصادر 1984» بعبارة تصف حالنا اليوم فيقول: «لم تعد السياسة الخارجية صنعة الهواة، لم يعرف الإنسان فى تاريخه الطويل مرحلة بلغت فيها إدارة سفينة التعامل الدولى ما وصلت إليه اليوم من تعقيد. إن فهم الحقائق التى تحيط بنا- ولو فى إطار محدود- فى حاجة إلى حياة كاملة» ثم يضيف «هذه الحقائق لا يريد أن يعيها المسئولون فى العالم العربى ة فهم تارة يعتقدون أن خطاباً مملوءاً بالأكاذيب والسباب قادر على أن يغطى حقيقة الفشلة وهم تارة أخرى يتصورون أن ضجيجاً إعلامياً حول زيارة لزعيم أجنبى يستطيع أن يؤكد النجاح المنقطع النظير» .
منذ أكثر من ثلاثين عاماً لم يتغير فى واقعنا شىء، لم تزل تدار أخطر القضايا المصيرية فى أمتنا بعقلية ومنطق ومهارات العلاقات العامة، بحيث صارت صناعة السياسة الخارجية مسألة علاقات عامة، يقوم بها مجموعة من الهواة الطامحين فى لعب أدوار كبرى تتعلق بمستقبل الشعوب ومصائرها ة ألم تكن تدار القضية الفلسطينية منذ زيارة السادات للقدس بمنطق وعقلية العلاقات العامة؟ةألم تتحول أخطر قضية تواجه الوجود المصرى ذاته، وهى قضية سد النهضة إلى عملية علاقات عامة يديرها أشخاص فيهم من الطيبة والبساطة والتواضع الشخصى ما يغرى الخصوم بتجاهلنا تجاهلاً مطلقاً؟ةألم يتم التعامل مع كل تدخلات قطر وتركيا فى الشأن المصرى - وإصرارهما، على مدار الساعة، على إشعال مصر ووضعها على المسار السورى أو الليبى - بعقلية ومنطق العلاقات العامة، وبمنتهى الضعف وخفض الجناح لمن لا يفهم إلا العكس؟.
وإذا كان حالنا هكذا ة فكيف نفهم الأمن القومي؟ وكيف تديره الدولة ومؤسساتها السيادية؟ةهنا يجيبنا أستاذنا الدكاترة حامد عبدالله ربيع رحمة الله عليه بتقديم أربع خصائص للأمن القومى هي:
أولا: مفهوم الأمن القومى مفهوم يتجه أساساً إلى قواعد التعامل الدولى الإقليمي، أو بعبارة أكثر دقة ينبع من خصائص الإقليم الجيوبوليتيكية؛ بهذا المعنى يمكن القول إن مفهوم الأمن القومى يتضمن نوعاً من التوازن بين الأنانية الذاتية بقصد الحماية القومية من جانب، ومنطق سياسة الجوار بما تفرضه من التزامات التعايش والتعامل السلمى من جانب آخر.
ثانيا: مفهوم الأمن القومى بهذا المعنى هو الوجه السلبى لسياسة حسن الجوار، مفهوم الأمن القومى يتجه أساسا إلى الدول المجاورة لأنه كما سبق ورأينا يدور حول حماية الإقليم القومي.
ثالثا: مفهوم الأمن القومى هو عملية تحويل للضعف الإستراتيجي، وتخطى عناصر ذلك الضعف؛ من خلال صياغة مبادئ سياسية، وهو لذلك لا يمكن أن يكون إلا حصيلة التعاون بين المخطط العسكرى والمنظر السياسي.
رابعا: مفهوم الأمن القومى ليس إلا عملية تقنين لمجموعة من المبادئ والقيم تمثل الحد الأدنى للحماية الذاتية؛هذه المبادئ تنبع من طبيعة الأوضاع الإستراتيجية، والخصائص المتعلقة بعلاقات التعامل مع الامتداد الإقليمى من جانب، والعنصر البشرى وسلوكاته من جانب آخر، والدول المحيطة ووزنها من جانب أخير. والحاكم لا يملك أن يخرج على مبادئ الأمن القومي، وأن خروجه عليها لا يعنى فقط فقد الشرعية بل تعريضه لتهمة الخيانة العظمي.والخلاصة أن مفهوم الأمن القومى هو فى جوهره مفهوم عسكرى ينبع من خصائص الأوضاع الدفاعية للإقليم القومي. انتهى كلام استاذنا. فى ضوء هذا الفهم للأمن القومى من حقنا أن نتساءل عن الكيفية التى تمت بها إدارة أزمة سد النهضة، هل فعلا تم التعامل مع هذا التحدى على أنه خطر يهدد الأمن القومى المصري؟ أم أنه ترك لوزير الرى الذى تعامل معه كأحد التعديات على نهر النيل مثل بناء بيت أو تعريشة على حرم النهر؟ة هل وصل إلى إدراك صانع القرار الإثيوبى أن هناك مخاطر حقيقية وجادة تواجه دولته إذا تعدى على حقوق مصر التاريخية فى مياه نهر النيل؟ أم أنه شعر أن مصر ضعيفة مهزوزة مثل ممثليها فى المفاوضات؟. وإذا إنتقلنا إلى مستويات أكثر عمقا؛ يحق لنا أن نتساءلة هل كان نظام الحكم فى إثيوبيا منذ الفراعنة صديقا للدولة المصرية؟ أم أنه كان عدواً أو منافساً؟ ةسؤال محورى لأن من أبسط متطلبات تحديد مفهوم الأمن لقومى هو تمييز الصديق من العدو من الجار، لتحديد طبيعة العلاقات وحدود التعامل بين حسن النوايا، والعلاقات العامة، وبين القوة الخشنة والقبضة الصارمة. مع اليقين الكامل بأن شعوب وادى النيل يجمعها من روابط الدم والعلاقات أكثر مما يفرقها، وأنها نسيج ثقافى ودينى وتاريخى واحد، فإن دول حوض النيل وحكوماتها لم تكن على نفس المستوى من العلاقات الأخوية والودية، فللحقيقة والتاريخ فإن نظم الحكم فى إثيوبيا لم تكن أبدا فى موقع الصديق الدائم لمصر، بل على العكس فقد كانت فى موقع الخصم أو المنافس فى أحسن الأحوال، وكانت تتحدد مظاهر الصداقة من خلال الأوزان النسبية لقوة الدولتين، ولنتذكر فقط قصة زأوبرا عايدةس ففيها دلالات جيوسياسية منذ عهد الفراعنة تحتاج من صانع القرار المصرى أن يعيد قراءتها، أو على الأقل يطالع كيف تعامل المماليك مع إثيوبيا فى كتاب الدكتور رجب محمد عبدالحليم، العلاقات السياسية بين مسلمى الزيلع ونصارى الحبشة فى العصور الوسطي، القاهرة: دار النهضة العربية، 1985. كذلك الحال بالنسبة لنظام الحكم فى السودان، فعلى الرغم من أن الشعب المصرى والسودانى شعب واحد وليس شعبين كما يردد الساسة؛ لا يستطيع إنسان أن يفصل بين المصريين والسودانيين بحدود جغرافية، لأن الامتداد البشرى ينداح، ويتدرج بصورة يصعب معها أن تقول هنا تنتهى مصر، وهنا يبدأ السودان، فسكان الصعيد هم امتداد لشمال السودان بصورة يصعب معها الفصل والتمييز، على الرغم من رسوخ هذه الحقيقة الإنسانية والاجتماعية؛ فإن نظام ثورة الإنقاذ، وعلى مدى ربع قرن أو يزيد وتحت ضغط خطاب دينى قاده الدكتور حسن الترابي، ووظف فيه كل مهاراته الفكرية والعقلية؛ قد استطاع أن يشكل عقلية جيل من السودانيين الذين يكرهون كل ما هو مصري، ويرون أن مصر مستعمر سابق، ويحلمون باليوم الذى ينتقمون فيه من مصر، هذه حقيقة صنعتها أجهزة دولة يقودها حزب إيديولوجي؛ يوظف خطابا دينيا استعلائيا. الأمن القومى المصرى يحتاج أن يخرج من عقلية العلاقات العامة إلى عقلية القيم والمبادئ القومية التى يجب أن توظف كل قوة الدولة للحفاظ عليها بما فيها القوة الخشنة، ولن يتم الحفاظ على مصر بالتوسل والاستجداء وانتظار أن تتعطف علينا بعض الدول ولا يتورط فى القضاء على وجودنا المادى.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة