يبدو أن الفوارق في اللون والتاريخ والجغرافيا والبنى الاقتصادية والخلفيات الثقافية بين أوروبا وإفريقيا
الدكتور عبد القادر دندن
يبدو أن الفوارق في اللون والتاريخ والجغرافيا والبنى الاقتصادية والخلفيات الثقافية بين أوروبا وإفريقيا؛ لم تمنع من أن يكون قدرهما مشتركا، إلى الحد الذي يجعل من حرب في الأدغال وفقر في عمق الصحراء الإفريقية تهز استقرار أوروبا وتستفز جهودها، لأنها تدفع بسيل من الأفارقة المحرومين لتحدي سلطة الجغرافيا ومنطق التسميات، وجعل البحر الموصوف بالأبيض يتلون بسواد بشرتهم وظلامية أوضاعهم وعتمة أفقهم.
آلاف من الأفارقة المعدمين وقليلي الحيلة القادمين من أكواخ صغيرة وقبائل مجهولة، يغادر كثير منهم قراهم لأول مرة، وهم لا يعلمون أن مطارتهم لأحلامهم بالحياة والعيش الكريم ستسبب كابوسا لأوروبا التي استعبدت أجدادهم لعقود، فإذا بالأحفاد يقلبون المعادلة، ويغزون بأجسادهم المنهكة وآمالهم البسيطة القارة التي سيرت سابقا جيوشًا لاستنزاف خيراتهم واحتلال أراضيهم.
أولئك الفقراء السود الفارين من الحرب والمرض والفقر والموت يدفعون بأوروبا المتعالية وبالشمال المتقدم للاجتماع بقادة الدول الإفريقية القادمين منها؛ لمعالجة مسألة الهجرة في قمة أوروبية إفريقية في مالطا، خصوصًا مع فشل مراهنة الدول الأوروبية على دول شمال إفريقيا كمنطقة عازلة تقف في وجه تدفق المهاجرين قبل وصولهم للسواحل الأوروبية، فالجزائر ترفض مبدأ إقامة مراكز عبور لحجز المهاجرين غير الشرعيين وترحيلهم لبلدانهم الأصلية وتسيير دوريات بحرية مشتركة، والمغرب قدراته محدودة في مراقبة حركة الهجرة، وليبيا بدون سلطة موحدة، وحدودها البرية الشاسعة وسواحلها الطويلة تفتقد للرقابة المطلوبة، وتونس منشغلة بمشاكلها الداخلية ومسارها السياسي، كما أن الدول المغاربية في حد ذاتها هي مصدر لآلاف المهاجرين غير الشرعيين الذين يشكلون عبئًا إضافيا على أوروبا.
أمام هذا الوضع الحرج؛ تأتي قمة مالطا كمسعى لإيجاد حل لهذه المشكلة، ولكن ماذا تريد أوروبا من الأفارقة؟ وماذا ينتظر الأفارقة من الأوروبيين؟ أوروبا يبدو أنها تريد بالأساس أن تقوم الدول الإفريقية بضبط حدودها وإيقاف حركة الهجرة في منطلقها ومهدها، بينما ينتظر الأفارقة المساعدة الكافية لتحقيق ذلك، وبرامج تنمية واضحة لتوفير فرص العمل وتحسين الأداء الاقتصادي، ولكن نظرة فاحصة تبين لنا أن الدول الإفريقية الفقيرة والفاشلة ذات الأنظمة غير الشرعية وغير الرشيدة في أغلبها، وذات البنى الاقتصادية الهشة؛ لا يمكنها أن تضبط حدودها في الوقت الذي تعجز فيه حتى الولايات المتحدة الأمريكية عن فعل ذلك مع جارتها المكسيك، كما أن تلك الأنظمة في إفريقيا مستفيدة من الهجرة؛ لما تشكله من مصدر لعوائد مالية ومتنفسٍ يخفف الضغط على سوق العمل المحدود والضعيف أصلا، وهنا يأتي دور الضغوطات والمساومات ومحاولة كل طرف أن يحصل على أهدافه بأقل التكاليف، حتى وإن كانت الكفة تميل نحو الأوروبيين لأسباب معروفة.
والواقع أن مسألة هجرة الأفارقة نحو أوروبا أكبر من أن تحتويها قاعة اجتماعات في جزيرة صغيرة مثل مالطا، واجتماع في مدة زمنية قصيرة لا يمكنه أن يمحو عقودا وعقودا من التراكمات، فأوروبا اليوم تدفع ثمن الحقبة الاستعمارية التي حطمت فيها جزءا كبيرا من البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للدول الإفريقية المستعمرة، تلاعبت فيها بالحدود التي لم تحترم فيها الخصوصيات الأنثروبولوجية والتاريخية وخلقت وضعا قانونيا وسياسيا يتعارض مع الجذور العميقة للتماسك الاجتماعي، مما تسبب في اندلاع نزاعات إثنية وأهلية مدمرة، وبعد كل ذلك تأتي تلك الدول الأوروبية وتطلب ببساطة من الدول الإفريقية أن تضبط حدودها.
أوروبا أيضا تدفع ثمن عقود من دعم أنظمة فاسدة تسلطية، وغض الطرف عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان والشرعية الدستورية، وهي النظم التي خدمت مصالح الداعمين الأجانب على حساب المصالح العليا لشعوبها، فبدل أن تذهب الثروة لأبناء الوطن، استحوذ عليها الأجانب بتواطؤ مع مسؤولين فاسدين، وهي تدفع كذلك ثمن اختلاقها لمناطق نزاع وبؤر توتر في القارة، و دعم إثنية على حساب أخرى، وجعل القارة ساحة للحرب وترويجا لأسلحتها.
المد الأسود اليوم يحطم الحواجز التي حاولت أوروبا وضعها أمام زحف من يصفهم "جون كريستوف روفان" في كتابه "الإمبراطورية والبرابرة الجدد" بالبرابرة الجدد القادمين من الجنوب، والمهددين لاستقرار الشمال، لاسيما مع فشل ما يسميه "روفان" بخط التماس أو المنطقة العازلة، والمتمثلة في دول شمال إفريقيا، في لعب دور المركز المتقدم في إطار المنظومة الدفاعية للشمال، ومادامت الثروة متمركزة هناك بعيدا عن الجنوب البائس سيظل التطلع نحوها مستمرا، وسيظل البحر الأبيض المتوسط لا يحمل من البياض سوى الاسم، مادام يحمل على ظهره مراكب للموت، وفي أعماقه يختزن أحلام آلاف المهاجرين الذين أودت بهم ظروفهم الصعبة في صورة دراماتيكية خلت من الألوان، وطغى فيها الأسود على الأبيض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة