ينظر في عينيه، فيلمح ضحكة حزينة ممزوجة باعتذار: "آسف لأني أرهقتك .. لم يكن بيدي أن أصاب بإعاقة تشكل عبئًا عليك".
ينظر في عينيه، فيلمح ضحكة حزينة ممزوجة باعتذار: "آسف لأني أرهقتك.. لم يكن بيدي أن أصاب بإعاقة تشكل عبئًا عليك، وتكدر عليك صفو حياتك وحياة أمي وأخوتي".
يفشل والد "أدهم" في منع دموع تسارعت من عينيه لمعانقة هذا الاعتذار الذابح، فيرد هو الآخر في نظرات منكسرة: "أنا الآسف؛ لأن ظروفي منعتني من تقديم المزيد لك، لا أشعر بقيمة حياتي إلا عندما أراك تتراقص على وقع الموسيقى، فحينها أدرك أنك تسمع! وأنني ربما أديت جزءًا من واجبي تجاهك، هو جزء لا ينفي التقصير، لكنه يمنحني الأمل من أجل السعي لتقديم المزيد".
يهمس في أذني والده سعيدًا: "حلو.. حلو.. سامع.. سامع.. الفرح".
جميلة هي كلماتك المتكسرة يا أدهم، وحروفك المتقطعة، التي لا تليق بطفل قضى 8 أعوام على وجه هذه الحياة، لكنها تبعث الأمل لدى المحيطين بك؛ لأنك تتكلم أخيرًا بعد طول صمت نابع من ولادتك بإعاقة سمعية، حرمتك السمع والكلام، حتى تحققت المعجزة وأجريت لك عملية لزراعة القوقعة التي مكنتك من السماع تمامًا والكلام بعض الشيء.
تمر لحظات الابتسامة، ثم يعتزم والده على أن يتوجه في الصباح الباكر إلى شركة السمعيات والتجهيزات الطبية كي يشتري له "سلكة" جديدة تصل بين السماعة الخارجية والجزء الداخلي من القوقعة المزروعة داخل رأس أدهم.. هكذا يضمن ألا يتعطل سمعه دقيقة واحدة، فإذا انقطعت السلكة القديمة بعد شهر من استعمالها، ستكون لديه سلكة جديدة يصلها فورًا.
في الصباح التالي، يقف والد أدهم أمام موظف شركة السمعيات:
عذرًا هل لديكم جديد في عالم السماعات الخارجية الخاصة بالقوقعة؟
- نعم، لقد وصلتنا سماعة خارجية لا سلكية، وعبارة عن قطعة واحدة تلتصق بمغناطيس في رأس الشخص.
هذا جيد.. كم سعرها؟
- فقط 75 ألف جنيه مصري (9500 دولار تقريبًا).
عذرًا.. هل يوجد لديكم تقسيط لثمن مثل هذه الأجهزة؟
- (يبتسم الرجل ابتسامة، يمكن تفسيرها على وجهيم مختلفين، فإن كان الرجل يبدو عليه التهذيب، فستكون ترجمة ابتسامته تلك: سامحني، فقد كان بودي أن أساعدك، لكنني مجرد موظف هنا!... أما إذا كانت ملامحه غير ذلك، فستكون ترجمة الابتسامة كالتالي: طالما أنك فقير مفلس، فلماذا تسأل مزهوًّا عما إذا كان هناك جديد أم لا؟ وأي تقسيط تريد؟ إنني أريد شخصًا ثريًّا يدفع المبلغ كاملًا حتى أحصل على عمولتي عن عملية البيع!).
يغادر والد "أدهم" الشركة غير عابئ بعجزه عن تدبير ثمن السماعة الجديدة، ويحتفل بشراء السلكة الجديدة ذات الثلاثمائة جنيه (37.5 دولارًا تقريبًا).
يتذكر ابتسامة "أدهم" وهو يطالبه بالمزيد من النقود لشراء ساعة أعجبته، وكيف يعترض طريقه وهو يقول: "فلوس فلوس"! عندها يرسم والده ملامح البؤس على طريقة أفلام الكارتون، ويقول له: "مفيش فلوس.. مفيش"! فيكون رد الطفل حاسمًا وسريعًا: "داداب.. داداب".. ويقول علماء اللغة: إن المقصود هنا هو كلمة "كداب"، أي "كاذب"! ولكن حرف الدال حل محل الكاف الذي يصعب عليه نطقه في الفترة الحالية من التأهيل الذي يخضع عليه.
اعتاد أدهم أن يقول "داداب" وهو يرمي يده في حافظة نقود والده كي يضبطه متلبسًا بوجود شيء من النقود، أي نقود، كي يثبت لهيئة المحكمة التي هو قاضيها الوحيد أن والده "داداب" رسميًّا.
بحسب الدراسات، يبلغ عدد من يعانون من ضعف السمع في مصر أكثر من 4.5 مليون إنسان، ويزداد عددهم بواقع 13 ألف شخص سنويًّا، فيما يبلغ عدد مَن يحتاجون لزراعة القوقعة 180 ألفًا. أما وزارة الصحة المصرية فتقول: إن من يتم علاجهم بزراعة القوقعة يبلغ حوالى 1500 طفل سنويًّا.
يتذكر والد "أدهم" هذه الأرقام، فيدرك أنه من المحظوظين رغم كل شيء، فيبتسم حين يجد نفسه أمام مصرف كان يعرض في السابق منحه قرضًا بشروط ميسرة.
يقابله موظف البنك، فيخبره بأنه يريد قرضًا بـ75 ألف جنيه، فيخبره بأن القرض متوافر، وأن الفوائد المستحقة عليه ستجبره على سداد 120 ألفًا بدلًا من 75، وأن الإجراءات سريعة! يشكره والد "أدهم" ويهرول هاربًا إلى خارج البنك!
وحين يعود إلى المنزل، يشم رائحة كآبة ما، يسأل زوجته عما حدث، فتقول: "لا شيء"! تصطدم عيناه بأدهم يبكي على أريكة أمام التلفاز!
يكرر الرجل السؤال بلهجة حاسمة: "ماذا حدث؟!"، فتخبره زوجته أن "أدهم" لا يسمع، وأن سماعته الخارجية معطلة!
ينسى الرجل فرحته بـ"السلكة" الجديدة، ويعانق "أدهم" ثم يخبره كاذبًا بحركة الشفتين: "غدًا.. سأشتري لك سماعة جديدة، لنشاهد المباراة معًا".
تبرق عينًا الطفل بمزيج من السعادة والأمل والعرفان، بينما أخذ الرجل ينتظر عطف السماء في أن يأتي الصباح وتعمل السماعة من تلقاء نفسها، وإلا سيكون عليه أن يبحث عن كذبة جديدة تحفظ الابتسامة على وجه "أدهم"؛ لأن غدًا وبعد غد عطلة أسبوعية للعاملين في الشركة التي ستفحص السماعة، على أمل إصلاحها.
aXA6IDMuMTM4LjEyNC4xMjMg جزيرة ام اند امز