يواجه الاقتصاد المصرى حاليا صعوبات متعددة، لعل أكثرها إلحاحا هو ما يعانيه الاقتصاد من عجز فى العملة الأجنبية
يواجه الاقتصاد المصرى حاليا صعوبات متعددة، لعل أكثرها إلحاحا هو ما يعانيه الاقتصاد من عجز فى العملة الأجنبية، الأمر الذى يمكن أن تترتب عليه صعوبات شديدة على مستوى الإنتاج المحلى ومستوى المعيشة. ولعل نقطة الضعف الرئيسية فى الاقتصاد حاليا هى ضعف القطاع التصديرى على النمو والتطور لمواجهة احتياجات البلد من العملة الأجنبية. وقبل أن نتناول هذا الموضوع، فعلينا أن نسترجع بعض الملامح الرئيسية للاقتصاد المصرى المعاصر.
لمحة عن معالم الاقتصاد المصري:
لعل نقطة البداية هى أن نتذكر أن معدل النمو السكانى مازال مرتفعا، بل يبدو أنه قد ازداد خلال السنوات الأخيرة، بعد ان تحقق بعض الانضباط فى السنوات السابقة. لقد كان عدد السكان فى بداية الخمسينيات عند قيام ثورة يوليو حوالى 22 مليون نسمة، ليصل إلى ما يقرب من 42 مليون نسمه عند تولى حسنى مبارك الحكم، ليصل العدد عند نهاية حكمه إلى ما يقرب من 86 مليون نسمة. وقد جاوز هذا العدد التسعين مليونا الآن. وبذلك يتضاعف عدد السكان كل ثلاثة عقود تقريبا و لعلنا نذكر أن عدد سكان مصر عندما تولى محمد على الحكم فى بداية القرن التاسع عشر كان يتراوح بين 2،5 ـ 3 ملايين نسمة وحيث كانت مساحة الأراضى الزراعية تتراوح أيضا بين 2،5 ـ 3 ملايين فدان، أى بمعدل فدان تقريبا لكل فرد. والآن، ورغم هذه الزيادة الكبيرة فى السكان فإن حجم الرقعة الزراعية ربما يزيد قليلا على 8 ملايين فدان، أى بمعدل أكثر من عشرة أفراد للفدان الواحد حقا، لقد زادت الانتاجية الزراعية مع وسائل الانتاج والرى الحديث، ولكن لاننسى أيضا أن التوسع فى الأراضى الزراعية كان غالبا فى الصحاري، حيث تحول الكثير من الأراضى الخصبة فى الوادى والدلتا إلى أراض للبناء وكلنا يدرك ما تواجهه مصر من صعوبات فى زيادة نصيبها من مياه النيل.
وإذا تركنا الزراعة ومصادر المياه، فإن مصر لا تتمتع بوفرة كبيرة فى الموارد الطبيعية. فليس فى مصر غابات كما هو الحال فى كندا أو الهند أو اندونيسيا أول البرازيل كما أنها لا تعرف مناجم للفحم كما كان الحال مع انجلترا، وحيث كان هذا هو الأساس فى بدء الثورة الصناعية بها، كذلك تتمتع فرنسا وألمانيا بمصادر كافية من الفحم وتتمتع الهند بمساقط كثيرة للمياه وكذا كندا مما يساعد على توليد الكهرباء، وهناك جنوب افريقيا بمصادره الكبيرة من الذهب والمعادن الأخرى ولاننسى ما يتمتع به الاتحاد السوفيتى سابقا ـ روسيا حالياـ من مصادر متعددة للمعادن والبترول كما لا تخلو الصين من مصادر عديدة من هده الموارد وفى مقدمتها الفحم، أما مصر ـ فمصادرها من الموارد الطبيعية محدودة وكانت مصر أول دولة فى الشرق الأوسط يكتشف فيها البترول وتبين بعد ذلك أنه بكميات غير كافية مما جعل مصر من كبار، المستوردين للغاز ، والبترول وقد اعلن أخيرا عن اكتشافات هامة للغاز فى البحر ومن الطبيعى ان يكون لذلك تأثير ايجابى على مستقبل الاقتصاد المصرى.
ورغم أن مصر قد عرفت تاريخيا بأنها سلة الغذاء للبحر المتوسط، فعندما أحتل الرومان مصر بعد هزيمة كليوباترة أمام القيصر أصبحت مصر «سلة الغذاء» لروما. وعندما فتح عمرو بن العاص مصر تحول هذا الفائض الغذائى لدولة الخلافة فى المدينة ثم دمشق ثم بغداد. ،تكرر نفس الشيء مع الحكم العثماني، ومع الاحتلال البريطانى أصبح القطن المصرى - مع القرن الأمريكى والهندى - أساس صناعة النسيج فى انجلترا، وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية كانت مصر دائنة انجلترا فيما عرف آنذاك بمشكلة «الارصدة الاسترلينية» التى سددتها انجلترا لمصر بعد ذلك بسنوات، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور المنسوجات الصناعية مع اكتشاف النيلون والألياف الصناعية تآكل دور القطن المصري.
وهكذا، كانت الزراعة مصدر فائض ما تحققه من محاصيل غذائية (القمح والأرز والذرة) أو مواد أولية للصناعة (القطن والكتان) لتصبح مصدرا للعجز فى الاقتصاد المصرى حيث اتجهت مصر إلى استيراد القمح لمقابلة الزيادة الهائلة فى السكان ولم تقابلها زيادة مماثلة فى الأراضى الزراعية وقد بدأ اعتماد مصر على استيراد القمح فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى عندما عرفت مصر لأول مرة فكرة المعونات الأجنبية، حيث عقد فى ذلك اتفاق بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، تقدم بمقتضاه القمح وتدفع مصر ثمنه بالجنيه المصرى الذى تستخدمه هيئة المعونة الأمريكية فى تمويل بعض المشروعات الصناعية والخدمية وهو ما عرف آنذاك بالمعونة الأمريكية واذا كانت الزراعة قد فقدت دورها فى توفير فائض للاقتصاد المصرى منذ ستينيات القرن الماضي، فقد كان قطاع السياحة وقناة السويس يسد الفجوة إلى حد ما.
ومن سوء الحظ أن تعرض القطاع السياحى فى الفترة الأخيرة لضربات متوالية فضلا عن التراخى فى معدلات التجارة العالمية مما أثر على إيرادات القناة ايضا.
وماذا عن الصناعة؟
الدعوة إلى التصنيع ليست بنت اليوم، فقد كانت أملا داعب المصريين منذ ما يقرب من قرن، وفى الربع الأول من القرن الماضى قامت دعوة طلعت حرب بإنشاء بنك مصر. حيث قام البنك فى ذلك الوقت بإنشاء العديد من المشروعات والمراكز الصناعية، لعل أهمها وأشهرها مصانع الغزل والنسيج فى المحلة الكبري، بالاضافة الى صناعة السينما والبواخر.. وغيرها وعندما قامت ثورة 1952 كان أحد أهم اهدافها هو التصنيع وإنشاء قاعدة صناعية محلية تحقق الاعتماد على الذات وإشباع حاجات السوق المحلية. وهكذا تنوعت الصناعات فى مختلف المجالات مثل الصناعات الغذائية، والصناعات الكيماوية خاصة الأسمدة والصناعات الحربية.. والقائمة طويلة.
وكان الغرض من هذه الصناعات توفير احتياجات السوق المحلية وتقليص الاعتماد على الواردات، وكان الشعار الغالب هو «الاكتفاء الذاتي» وإحلال الواردات، فلم يكن الغرض من هذه الصناعات الجديدة فتح أسواق خارجية جديدة، وانما الاحتفاظ بالسوق المحلية، كسوق مضمونة ومستقرة.
وإذا نظرنا إلى معظم هذه الصناعات الحكومية حاليا، فإن أوضاعها أصبحت بالغة السوء، سواء من ناحية تزايد عدد العاملين فيها بأكثر من الحاجة، أو تراكم المخزون غير القابل للتصريف، أو لتهالك الآلات دون تجديد. وقد بلغت الخسائر فى العديد من هذه المصانع مئات المليارات من الجنيهات، وتمثل هذه الخسائر أحد أهم أسباب العجز فى الموازنة العامة، حيث تضطر الحكومة لتحمل تكاليف الأجور والرواتب جزئيا أو كليا، والعديد من هذه المصانع لا يعمل أو لا يعمل بكامل طاقته الإنتاجية، نظرا لنقص العملة الأجنبية اللازمة لاستيراد المواد الخام والوسيطةاللازمة للإنتاج الصناعى أو الاستيراد الآلات الجديدة وتطوير الآلات القديمة مما يدعونا لتساؤل: هل هذا القطاع هو المشكلة؟ أم أنه الضحية؟
التصنيع والتصدير
هل هناك علاقة بين التصنيع والعملة الأجنبية وبالتالى ميزان المدفوعات؟ نعم، هناك علاقة بين الأمرين، ففى أحيان يكون التصنيع عبئا على التجارة الخارجية وبالتالى مدى توافر العملة الأجنبية،وأحيان أخرى يكون التصنيع دعما للتجارة الخارجية وتقوية لميزان المدفوعات وتوافر العملة الاجنبية.
ويبدو أن مصر وقعت فى المأزق الأول، بحيث لم يكن التصنيع داعما للتجارة الخارجية بقدر ما أصبح عبئا عليها، وعلى العكس، فإن اليابان ومن بعدها كوريا الجنوبية استخدما التجارة الخارجية لعلاج مشكلة نقص العملة وذلك عن طريق اختيار مفهوم التصنيع من أجل الصادرات وزيادتها وليس إحلالا للواردات فقط .
واليابان - كما هو معروف - بلد فقير فى الموارد الطبيعية، وأن الصناعة لا يمكن تقوم فيه اعتمادا على مواردها الطبيعية المحدودة ولابد له من الاستيراد سواء المواد الخام أو الآلات أو غيرها من السلع اللازمة للإنتاج، فكيف تحل المشكلة؟ هنا اختارت اليابان منذ منتصف القرن التاسع عشر التصنيع من أجل زيادة الصادرات وليس فقط لإحلال الواردات. فقد أدركت اليابان فى ذلك الوقت أنها دولة محدودة الموارد وأن بناء صناعة حديثة يتطلب موارد مالية كبيرة لاستيراد التكنولوجيا وقطع الغيار والكثير من الموارد الأولية المطلوبة للتصنيع، فالتصنيع بدأ فى اليابان، وهى دولة فقيرة فى مواردها الطبيعية، فما العمل؟
وما علاج ذلك؟
الحل هو أن يصبح قطاع الصناعة قادرا على تمويل نفسه بنفسه فيما يتعلق باستيراد احتياجاته من المواد الأولية أو الوسيطة أو الآلات الرأسمالية ومن هنا كان الاختيار الطبيعى أن تكون الصناعة أساسا للتصدير وبحيث تحقق ما يكفى لاستيراد احتياجاتها من الأسواق الأجنبية، والفائض يعود إلى الاقتصادى المحلى ، فالصناعة اليابانية قامت منذ البداية على فتح الأسواق الأجنبية إذ لم يكن لديها قطاع آخر قادر على توفير العملات الأجنبية اللازمة للصناعة.
وإذا كانت الصناعة اليابانية قد قامت منذ البداية على أساس التصدير لدفع فاتورة وارداتها من المواد الأولية والوسيطة، فإنها كانت مضطرة إلى الاحتفاظ بدرجة عالية من القدرة على المنافسة العالمية وإلا فقدت أسواقها فى الخارج، ومن هنا فإن الصناعة التصديرية بطبيعتها مضطرة للاحتفاظ بدرجة عالية من الكفاءة وسلاحها الوحيد هو الإنتاجية العالمية وانخفاض الأسعار، فلا تستطيع دولة أن تحتفظ بأسواقها الخارجية ، إلا إذا كانت أسعارها مناسبة وسلعتها متميزة ودون ذلك فإنها تفقد هذه الأسواق لمصلحة المنافسين من الدول الأخري.
فماذا حدث فى مصر منذ منتصف القرن الماضي.
ارتبط التصنيع بعدد من العوامل غيرالمشجعة، فالزيادة السكانية بدأت تلتهم الفائض الزراعي، وتحولت مصر إلى مستورد كبير للمواد الغذائية خاصة القمح وربما تعتبر مصر أكبر مستورد عالمى فى هذا المجال الوقت نفسه دور القطن، والذى كان المصدر الرئيسى لتوفير فائض اقتصادى يمكن أن يساعد القطاعات الأخري، وفى الوقت نفسه ، فإن اختيار فلسفة «إحلال الواردات» كأساس للصناعة بدلا عن التصنيع من أجل التصدير ، جعل معظم هذه الصناعات يعانى اختلالا فى مصروفاتها وايراداتها فهى تضطر إلى تحمل أعباء كثيرة لاستيراد الطاقة والعديد من المواد الأولية، والسلع الوسيطة، فضلا عن الآلات ومكوناتها من الخارج بالنظر إلى ما تعرفه مصر من نقص كبير فى معظم المواد الاولية. وهكذا، فإن استمرار هذه الصناعة يتطلب توافر العملة الأجنبية بشكل كبير ، وفى الوقت نفسه، فإن هذه الصناعة وهى تتجه الى السوق المحلية، فإن إيراداتها تكون عادة بالعملة المحلية وهكذا تواجه صناعة »إحلال الواردات« مشكلة نقص العملة الأجنبية فهى تحتاج بشكل مستمر الى عملات أجنبية لاستمرار انتاجها وتطويره ، فى حين ان ماتحصله من إيرادات تكون بالعملة المحلية وهكذا تواجه معظم هذه الصناعات مشكلة نقص العملة الأجنبية سواء أكانت مطلوبة لاستيراد المواد الأولية والوسيطة ام مطلوبة للارتقاء بالكفاءة الانتاجية للآلات ورأس المالى الفني.
كذلك فإنه فى ضوء النقص المستمر فى توافر العملة الأجنبية المطلوبة لاستيراد المواد الأولية والوسيطة اللازمة للانتاج ، فإن أيسر الحلول هو الانتاج بمواصفات محلية دون المواصفات العالمية للصناعة . فالسوق المحلية ، هى إلى حد بعيد رهينة الصناعة الوطنية وهى تضطر الى قبولها بالنظر الى ارتفاع اسعار السلع المستوردة البديلة والتى تتمتع بشكل عام بمواصفات متفقة مع المواصفات الدولية وهكذا تتحول السوق الوطنية المحلية الى سوق تقبل الأصناف الأقل جودة . مما يؤدى إلى مزيد من عدم الارتقاء بالإنتاج الصناعى المحلي، ومن ثم بقدرتها على المنافسة العالمية. فالسوق المحلية الأكثر قبولا للسلع غير المطابقة للمواصفات العالمية تؤدي، بشكل غير مباشر إلى تشجيع الصناعة المحلية غير المطابقة للمواصفات العالمية، من ثم انعدام قدرتها على دخول الأسواق العالمية، ولا يقتصر الامر على ذلك، بل انه يشجع على مزيد من استيراد السلع الرديئة والتى لا تجد لها مجالا فى الأسواق العالمية الكبيرة.
وفى ضوء ما نعانيه حاليا من أزمة فى العملات الأجنبية، فإن السبيل الوحيد هو العودة إلى التصنيع من أجل زيادة الصادرات، وبالتالى توفير العملات الكافية للصناعة للمحافظة على قدراتها التنافسية العالمية. والخطوة الأولى فى هذه السبيل هى الالتزام بالمواصفات العالمية للصناعة المصرية، الأمر الذى يفتح أمام هذه الصناعة الأسواق الخارجية، وليس صحيحا أن التصدير يتوقف فقط على الأسعار، وأن تخفيض العملة من شأنه وحده ان يزيد من هذه الصادرات، بل لا بد من استعادة المواصفات العالمية حتى تقبل بضاعتها فى هذه الأسواق.
ودون ذلك، ستظل صناعتنا محلية، بل أنها ربما تعانى مزيدا من الصعوبات مع نقص الموارد من العملة الأجنبية وهذا النقص يتطلب إعادة توجه الصناعة إلى التصدير، الأمر الذى لا يتحقق فقط بتحسين الأسعار فى الأسواق الخارجية، بل يتطلب ايضا ضرورة مراعاة المواصفات العالمية للصناعة.
والصناعة الناجحة تتطلب موالاة التقدم التكنولوجى والقدرة على المنافسة العالمية، أما الانكفاء على الذات فهو أقرب إلى الهروب منه إلى الحل.
وقد نجحت تركيا إلى حد كبير فى تحسين اقتصادها خلال السنوات الأخيرة نتيجة أخذها جميع المواصفات الاوروبية للصناعة الوطنية بها.. والله أعلم.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة