بثت، منذ أيام، قناة "العربية" حواراً مسجلاً مع أسماء محمد، أولى زوجات أبوبكر البغدادي زعيم تنظيم "داعش".
ورغم أن الحوار مسجل بعد أعوام من مقتل البغدادي عام 2019، فإن زوجته التي تُكنى بـ"أم حذيفة" سلطت فيه الضوء على جوانب مهمة، وذات دلالة بالنسبة لطبيعة شخصية البغدادي، وتعاملاته الإنسانية في بيته وحياته الشخصية، بالإضافة إلى معلومات مهمة تكشف كيف يفكر قادة هذا التنظيم والمنطق الذي يحكم عملية صنع واتخاذ القرار داخله وبالتالي ربما بقية هذه التنظيمات الإرهابية.
يمكن الخروج من حديث أم حذيفة برؤية قد لا تكون محايدة أو متجردة من العاطفة الإنسانية حباً أو كرهاً، إلا أنها شهادة للتاريخ من شخص شديد القرب إلى البغدادي. وحين تصدر هذه الشهادة من أولى زوجاته التي اقترن بها عام 1999، وعاصرت معه مراحل تطوره والمحطات المهمة في حياته الخاصة والعامة حتى ما قبل مقتله بعامين تقريباً، فهي بالتأكيد شهادة مفتاحية لفهم "الشخص" وقراءة "العقل" الذي كان يدير هذا التنظيم الإرهابي.
تقول زوجة البغدادي إنه كان رجلاً عادياً يباشر دراسته العليا في العلوم الإسلامية. ولم تبدُ عليه أي مظاهر للتطرف، إلا بعد أن اعتقلته القوات الأمريكية لمدة عام. وتؤكد هذه اللفتة من زوجة البغدادي التحليلات السياسية والنفسية التي تبحث في كيفية تكوُّن الشخصية المتطرفة. فأحد أسباب اللجوء إلى التطرف فكرياً أو حركياً، توقيف أبرياء بداعي الاشتباه أو بدون أدلة. فيكون التطرف رد فعل عكسياً مباشراً على التعرض لممارسات وانتهاكات نفسية أو جسدية، لأنها تساعد في تأثر الأشخاص الطبيعيين بأفكار المتطرفين والإرهابيين.
وعلى الرغم من التحول الكبير في حياة البغدادي، من إنسان طبيعي بسيط إلى متطرف وزعيم تنظيم إرهابي بواجهة دينية، لم تكن هناك تحولات موازية في تركيبته النفسية، فوفقاً لما ذكرته زوجته أم حذيفة، لم يكن يهتم لأحد غير نفسه، فلم يحزن لوفاة أي من قيادات التنظيم.
وفي المقابل، كان شديد الخوف على أمنه الشخصي، حتى إنه كان يحمل سلاحه أثناء وجوده مع أولاده في المنزل. ومعنى ذلك حرصه الشديد على الحياة، على خلاف من يقتنعون فعلياً بصحة أفكاره المتطرفة، فيبحثون عن الموت ويعتبرونه "استشهاداً" فلا يهربون منه. وفي نفس الإطار، أكدت زوجة البغدادي أكثر من مرة أن البغدادي وغيره من قيادات التنظيم، كانت تغلبهم النزعات الدنيوية، وتحديداً الشهوة إلى النساء. وكان لكل منهم سبايا كثيرة، فضلاً عن تعدد الزوجات. بل كانت قيادات التنظيم توظف النساء في استقطاب وتجنيد أعضاء جدد للتنظيم، بمغريات الزواج والتعدد والسبايا.
ومن أهم مظاهر غلبة الطباع البشرية التقليدية على التنظيم وقياداته، الغرور الذي أصابهم بعد إعلان ما سمّوه "دولة الخلافة" وبسط السيطرة على مساحات من العراق وسوريا.
حيث صار البغدادي يتعامل بعنجهية وصلت إلى حد التنقل بأريحية في مناطق سيطرة التنظيم وقيادة السيارة بنفسه من دون حراسة، بل بات يحلم بفتوحات كبيرة للتنظيم في أوروبا.
ومن أهم ما في حوار زوجة البغدادي، أنها لفتت الانتباه ضمنياً إلى السطحية وضيق الأفق في عقليات قادة تنظيم داعش، وذلك بالإشارة إلى واقعة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة. إذ كشفت أن تبرير تلك البشاعة والوحشية عند البغدادي والتنظيم، أن الكساسبة كان يمارس القتل ضدهم بالطريقة ذاتها من خلال عمله كطيار، بقصف مواقع وعناصر التنظيم.
واتضح من حديث أسماء محمد زوجة أبوبكر البغدادي، أن البيئة المحيطة بالبغدادي ورفاقه، بما فيها المحيط العائلي، ليست كما قد يظن البعض. فقد تكرر في حديث زوجة البغدادي استنكارها لبعض أفكاره وإجراءاته المتطرفة التي تعتبرها هي متجاوزة للأحكام الشرعية وجوهر الدين.
في الحقيقة الحوار مهم لأنه يكشف ستر تلك التنظيمات واختلال قياداتهم نفسياً وفكرياً. الأمر الذي يدعو المحللين والمختصين في الأجهزة الأمنية والمؤسسات المعنية بمتابعة هذا الفكر، إلى منح مزيد من الاهتمام إلى تلك الجوانب غير التقليدية في مكافحة التطرف والإرهاب. واتباع مقاربات جديدة في محاولة فهم الظاهرة الإجرامية في سياقاتها الاجتماعية والنفسية، لتكون المواجهة شاملة والمعالجة جذرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة