رغم إطلاق قادة العالم تصريحات كثيرة قبل وخلال مؤتمر غلاسكو تخص خططا مناخية في 2030 و2050، فإن الشواهد لا تزال تعمل باتجاه فردي.
المرجعية الرئيسية في هذا الإطار هي اتفاقية باريس للمناخ، والتي تحكم ما يجري في غلاسكو، فقد سبق أن عُقدت قممٌ سابقة تحت المظلة الدولية، ولم تحسم ما تم طرحه في باريس، بصرف النظر عما يتردد من أن الدول الكبرى ستُعيد النظر فيما لم يتحقق من وعود تجاه الدول النامية بخصوص تمويلات مواجهة آثار المناخ، في ظل غياب مؤثر لآليات العمل، أو ممارسة أكبر قدر من الضغط للتوصل إلى توافقات تنقذ البشرية، عبر إجراءات ليست فقط متعلقة بالانبعاثات الحرارية.
الواضح أن غياب الإرادة السياسية يحكم مسار الحركة الراهنة في قمة المناخ بغلاسكو، حتى مع توقيع بعض الاتفاقيات الفرعية.
اللافت أن الصراعات السياسية نُقلت بطبيعة الحال إلى ملف المناخ إقليميا ودوليا، ما يعني أننا أمام تحديات صعبة ومخاطر من نوع آخر، فليس من المتوقع أن تتجاوب الدول الكبرى وتستمع لصوت العقل والرشادة السياسية المفترض أن تُتّبع في التعامل مع الطرح الراهن للعمل على إنقاذ البشرية.. فقط سيتم إطلاق التعهدات، التي لن يلتزم بها أحد بعد انتهاء الفعالية الدولية.
الخطورة ليست في استمرار الوضع الراهن أو حتى تدهوره فقط، وإنما فيما هو قادم من فتح ملفات متعلقة بقضية المناخ الرئيسية، والتي ترتبط بالأساس بما يمكن أن يُطرح في التعامل مع إشكاليات الطاقة ومصادرها وإعادة النظر في اتفاقياتها الأخرى، التي تطرح الأمر على استحياء، ليس على سبيل المراجعة، وإنما تصويب المسار والبحث عن بديل في إطار سيناريوهات أكثر واقعية وشمولية تعيد النظر في كثير من الاتفاقيات الدولية الأخرى في مجال تنوع استخدامات الطاقة لدى الدول الكبرى، والتي لا تزال تراوغ في التزامها المقررات الدولية، ما سيصعّب التوصل إلى آليات دولية متفق عليها بعيدا عما يتم تداوله إعلاميا دون أن يكون له مردود أو ضمانة حقيقية يُرتكن إليها فيما بعد.
ولعل دور الأمم المتحدة وتصريحات أمينها العام واضحة في هذا السياق، حيث ستظل المنظمة على الهامش ودورها محدود، رغم جرأة الأمين العام في التحذير من مغبة ما يجري، داعيا لـ"عَقد مناخي جديد"، ولكن لا أمل كبير في ذلك وسط السياسات المنفردة للدول الكبرى، وعدم إنصاتها لإنقاذ البشرية مما يحيطها من مخاطر.
الحقيقة أن الأمم المتحدة في سنواتها الأخيرة -حتى قبل أزمة كورونا- بدأ دورها ينحسر في مواجهة ما يجري عالميا، ليس في ملف المناخ فقط، وإنما في ملفات دولية تهم البشرية بأكملها: الملف النووي الدولي واتفاقيات التسليح والصراع على الطاقة، واستمرار الصراعات والنزاعات الدولية، الأمر الذي تزايد مع تداعيات أزمة كورونا، التي فرضت نفسها على الجميع، واكتفت منظمة الصحة العالمية -التي وقعت في دائرة التجاذب بين الصين وبين الولايات المتحدة- بأداء دور محدد في ملف تقديم المساعدات الطبية وتوفير اللقاحات والأمصال، ولم تتطرق الأمم المتحدة لما يمكن أن يحدث من تطورات ربما تنقل أزمة كورونا إلى أزمات بيولوجية أخرى قد تكون أكثر خطورة وأشد تأثيرا.
ومع استمرار الصراع في ملف المناخ دوليا سيكون لملفات أخرى تواجه البشرية محل اعتبار حقيقي، ومن ذلك أزمة امتلاك السلاح النووي والرؤوس النووية، وبناء المفاعلات بالطاقة التقليدية، ومحاولات بعض الدول التنصل من اتفاقيات التسليح، إضافة للسعي لامتلاك سلاح مستحدث فوق التقليدي، وهو أخطر ما يمكن أن نواجهه في العالم اليوم، إضافة للانتقال إلى عسكرة الفضاء عبر إجراءات انفرادية، ما سيؤدي إلى مواجهات غير مباشرة، لذا سيبقى تأكيد الهدف، الذي حدده اتفاق باريس بـ"حصر الاحترار في 1.5 درجة مئوية مقارنة بمستوى ما قبل الحقبة الصناعية، وتحقيق الحياد الكربوني بحلول منتصف القرن الحالي، وإنهاء الدعم الحكومي لمحطات الطاقة، التي تعمل بالفحم"، مجرد وعود في حاجة إلى ضمانات وليس تطمينات، بدليل تحول مؤتمر غلاسكو إلى ساحة غير مباشرة للمواجهة، واستمرار الخطاب الإعلامي الأمريكي تجاه قضية المناخ على ما هو عليه.
يظل الحفاظ على هدف 1.5 درجة مئوية متطلبا لإجراءات والتزامات كبيرة وفعالة من جميع البلدان، لكنّ ثمّة غيابًا لالتزامات واضحة، كما أن التزام أغنى دول العالم توفير 100 مليار دولار سنويا اعتبارا من 2020 لن يتحقق قبل 2023، مع أن تداعيات الأزمة المناخية تتفاقم مع موجات جفاف وحر غير مسبوقة، وحرائق ضخمة وفيضانات، فيما تقف غالبا الدول الفقيرة في الصفوف الأمامية في مواجهة هذه الكوارث.
يشار إلى أن قادة العالم تعهّدوا في اتفاقية باريس عام 2015 بوضع حد للاحترار عند أقل من درجتين مئويتين، ومتابعة الجهود للحد منه ليصل إلى 1.5 درجة فقط، أعلى من مستويات ما قبل عصر التصنيع، كما أن تسعير الكربون يعد وسيلة محورية لتجميع رأس مال خاص لحماية المناخ، فبمجرد أن يصبح لثاني أكسيد الكربون سعر، سيتمكن مستثمرو القطاع الخاص من معرفة الوجهة التي سيستثمرون فيها تقنيا وصناعيا.
الحلول كثيرة لمواجهة تداعيات كارثة المناخ، وطُرحت على لسان المشاركين في قمة غلاسكو، لكن مَن يسمع ومَن ينصت!، ومَن يمكن أن ينفذ ويلتزم؟، وهذا جوهر ما يجري في التعامل مع إشكالية المناخ، وما يرتبط بها من موضوعات، بدليل عدم وجود ضمانات حقيقية حول إزالة الغابات وتدهور الأراضي بحلول عام 2030، خاصة أن بعض التعهدات تأتي مدعومة بـ8.75 مليار جنيه إسترليني من التمويل العام، إلى جانب 5.3 مليار جنيه إسترليني أخرى من الاستثمارات الخاصة حسبما أُعلن، لكن سيبقي الأمر مُرتهنا بتوافر الأجواء السياسية للتوافق وليس للصدام المعلن والمستتر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة