أديبك.. قصة نجاح إماراتية تقود التحول في مشهد الطاقة الدولي
منذ انطلاقه قبل أكثر من أربعة عقود، رسخ معرض ومؤتمر أبوظبي الدولي للبترول "أديبك" مكانته كأكبر وأهم حدث عالمي في قطاع الطاقة، جامعا بين القادة وصناع القرار والمستثمرين والمبتكرين في منصة واحدة تبحث عن حلول عملية لمستقبل الطاقة العالمي.
ويأتي "أديبك 2025" امتدادا لمسيرة حافلة بالنجاحات، إذ يواصل الحدث لعب دور محوري في صياغة سياسات الطاقة، وطرح الحلول التقنية والاقتصادية التي تسهم في تحقيق توازن بين النمو الاقتصادي ومتطلبات التحول الطاقي المستدام.
وقد شكل المعرض في دوراته السابقة نقطة التقاء لأكثر من 2000 جهة عارضة من نحو 160 دولة، وشارك فيه عشرات الآلاف من الخبراء والمستثمرين وممثلي الحكومات والمؤسسات الدولية. كما شهد توقيع صفقات واستثمارات تجاوزت قيمتها عشرات المليارات من الدولارات، ما جعله ركيزة أساسية في جدول أعمال الطاقة العالمي.

مستقبل الطاقة
تمكنت أبوظبي من تحويل "أديبك" إلى منصة عالمية تجمع بين الابتكار والاستثمار والسياسات الاقتصادية. فبفضل البنية التحتية المتطورة والبيئة التشريعية المرنة والموقع الجغرافي الاستراتيجي، أصبحت العاصمة الإماراتية مركزا رئيسيا للحوار الدولي حول مستقبل الطاقة.

ولا يقتصر الدور الإماراتي على استضافة الحدث، بل يمتد إلى إعادة تعريف مفهوم الطاقة عبر التركيز على استراتيجيات التنويع، وتطوير مصادر جديدة للطاقة النظيفة مثل الهيدروجين الأخضر، والطاقة الشمسية، والتقاط الكربون، إضافة إلى دعم مشروعات الذكاء الصناعي في القطاع.
وقد أدت هذه الرؤية إلى تعزيز مكانة الإمارات كواحدة من أبرز الدول التي تجمع بين الريادة النفطية التقليدية والابتكار في الطاقات المتجددة، بما ينسجم مع "استراتيجية الإمارات للحياد المناخي 2050"، التي تمثل خارطة طريق طموحة لتحقيق نمو اقتصادي منخفض الكربون.

يشكل "أديبك 2025" نقطة انعطاف في الحوار الدولي حول التحول الطاقي، إذ لم يعد المفهوم مجرد عنوان بيئي، بل أصبح أولوية اقتصادية واستراتيجية تمسّ أمن الدول واستدامة اقتصاداتها.
ويُتوقع أن تتركز جلسات المؤتمر المقبلة حول التحول المتوازن للطاقة - أي إيجاد معادلة تحقق توازنا بين أمن الإمدادات، واستقرار الأسواق، وخفض الانبعاثات.

ويستند هذا التوجه إلى إدراك متزايد بأن تسريع الانتقال نحو الطاقة النظيفة لا يمكن أن يتم بمعزل عن منظومة الطاقة التقليدية، التي لا تزال تشكل أكثر من 80% من استهلاك العالم حتى اليوم.
مبادرات تقنية
وينتظر أن يشهد المعرض إطلاق عدد من المبادرات التقنية الجديدة التي تدمج الذكاء الصناعي، وإنترنت الأشياء، وتحليل البيانات الضخمة في إدارة الحقول والمنشآت النفطية، ما يمهد لمرحلة جديدة من الكفاءة التشغيلية وتقليل الانبعاثات.
يراهن "أديبك 2025" على التكنولوجيا بوصفها العمود الفقري للتحول الطاقي القادم، إذ يشكل الذكاء الصناعي الصناعي (Industrial AI) محورا رئيسيا في معظم جلساته وورش العمل.

ومن المتوقع أن تسلط الدورة الجديدة الضوء على كيفية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتحسين الكفاءة في الإنتاج والتكرير والتوزيع، وكذلك في التنبؤ بالطلب وإدارة المخاطر وسلاسل الإمداد.
كما ستتناول المناقشات دور الأتمتة الصناعية والروبوتات الذكية في تعزيز السلامة التشغيلية وتقليل التكاليف، إلى جانب التركيز على تطوير البنية التحتية الرقمية التي تتيح التواصل بين الأنظمة الصناعية المختلفة ضمن إطار ما يعرف بـ"المصانع الذكية للطاقة".
وبحسب تقديرات اقتصادية، فإن إدخال الذكاء الصناعي إلى قطاع الطاقة يمكن أن يخفض تكاليف التشغيل بنسبة تتراوح بين 10 و20%، ويرفع كفاءة الاستهلاك بأكثر من 15% في بعض الصناعات الثقيلة، وهو ما يفتح الباب أمام استثمارات بمليارات الدولارات في الأعوام المقبلة.

التمويل الأخضر
أحد المحاور الجوهرية في "أديبك 2025" هو التمويل الأخضر ودوره في تسريع التحول الطاقي. فقد بات واضحا أن تحقيق الحياد الكربوني يتطلب تحالفا بين رأس المال والتكنولوجيا والسياسات، وأن التمويل المستدام هو الوسيلة الأنجع لتحقيق هذا التوازن.
ومن المنتظر أن تناقش الجلسات دور البنوك والمؤسسات الاستثمارية في دعم المشاريع الخضراء، مع التركيز على أدوات التمويل المبتكرة مثل السندات الخضراء، وصناديق التحول الطاقي، والاستثمارات منخفضة الانبعاثات.

ويتوقع أن يشهد المعرض توقيع اتفاقيات تمويلية بين مؤسسات إماراتية ودولية، بما يعزز مكانة الدولة كمركز مالي عالمي لدعم الاقتصاد الأخضر.
في دورة العام الماضي، استقطب "أديبك" أكثر من 184 ألف زائر متخصص، وضم أكثر من 2200 شركة عارضة تمثل سلاسل القيمة الكاملة لقطاع الطاقة. كما شهد مشاركة 30 شركة نفط وطنية و47 شركة دولية، إضافة إلى أكثر من 1000 متحدث من القادة والخبراء العالميين.
بوصلة الاقتصاد الطاقي العالمي
هذه الأرقام لا تمثل نجاحا تنظيميا فحسب، بل تؤكد أن أديبك أصبح بوصلة الاقتصاد الطاقي العالمي، ومقياسا لحيوية الأسواق النفطية والابتكارية على حد سواء.
منذ دورته الأولى في عام 1984، عندما انطلق كمعرض متخصص في صناعة النفط والغاز، تطور "أديبك" ليصبح حدثا عالميا شاملا يجمع جميع أطياف قطاع الطاقة، من الوقود الأحفوري إلى التقنيات النظيفة.

خلال العقود الأربعة الماضية، تحول الحدث من مساحة تجارية محدودة إلى منصة استراتيجية عالمية تناقش مستقبل الصناعة وتوجه السياسات الاقتصادية العالمية في مجالات الطاقة.
في دورة عام 2019، التي سبقت الجائحة، شهد المعرض توقيع أكثر من 20 مليار دولار من العقود، واستقطب أكثر من 155 ألف زائر، ما عزز مكانته كأكبر تجمع سنوي لقطاع الطاقة في العالم.
أما في دورة 2021، فقد حمل "أديبك" شعار «إطلاق مستقبل الطاقة»، ليعلن رسميا عن دخول مرحلة ما بعد الجائحة بثقة، مركزا على التحول نحو الطاقة النظيفة، والهيدروجين الأخضر، والتقنيات الرقمية في الصناعة.
وفي عام 2022، شكل المعرض منصة تمهيدية لقمة المناخ COP28 التي استضافتها الإمارات لاحقا، إذ ركز على مفاهيم خفض الانبعاثات وإدارة الكربون وتطوير أسواق الائتمان البيئي.
منبر عالمي للطاقة المستدامة
أما دورة 2023، فقد عكست التحول الجذري في فكر "أديبك"، حيث أعيدت تسميته رسميا إلى "معرض ومؤتمر أبوظبي الدولي للطاقة" بدلا من "النفط"، في خطوة رمزية تؤكد انتقال الحدث من كونه ملتقى لصناعة النفط إلى منبر عالمي للطاقة المستدامة والتقنيات المتقدمة.

كما شهدت تلك الدورة مشاركة 30 وزيرا للطاقة من حول العالم، وممثلي أكثر من 160 دولة، وتوسعا غير مسبوق في جناح التكنولوجيا والذكاء الصناعي، ما جعل الحدث أكثر تكاملا بين الصناعة والابتكار والاستدامة.
وقد وصفت تلك الدورة من قبل مؤسسات دولية بأنها "النسخة التي غيرت قواعد اللعبة" في حوار الطاقة العالمي، لكونها جمعت بين كبار منتجي النفط والمبتكرين في مجالات الطاقة المتجددة ضمن حوار واحد حول التحول المتوازن.
ومن أبرز إنجازات الدورات السابقة كذلك إطلاق مبادرة قادة الطاقة الشباب التي تهدف إلى إعداد جيل جديد من الكفاءات الإماراتية والعالمية في مجالات إدارة الطاقة والاقتصاد المستدام، إضافة إلى منتدى أديبك للنساء في الطاقة الذي أصبح أحد أبرز منصات تمكين المرأة في القطاع الصناعي العالمي.
تجاوز "أديبك" مفهوم المعارض التجارية ليصبح مؤتمرا اقتصاديا عالميا يعيد صياغة مفاهيم الطاقة والاقتصاد معا، جامعا بين المناقشات الفكرية، والاتفاقات الاستثمارية، والابتكارات التقنية التي تصنع الفارق في الأسواق.
ولذلك، ينظر إلى "أديبك 2025" باعتباره تتويجا لمسيرة امتدت لأربعة عقود من النجاح، وخطوة جديدة في رحلة الإمارات نحو الريادة في الاقتصاد الطاقي المستدام.
القوة الناعمة الإماراتية
يمثل "أديبك" أيضا أحد أذرع القوة الناعمة الإماراتية، إذ يجمع تحت مظلته ممثلي الحكومات وشركات الطاقة والتقنية من مختلف القارات، ويتيح منصة حوار شفاف بين الشمال والجنوب حول مستقبل الطاقة العالمي.
وفي ظل التحديات الجيوسياسية وتقلبات الأسواق، تظهر الإمارات من خلال هذا الحدث قدرتها على لعب دور الوسيط والمحفز للحوار الاقتصادي البناء.

فبينما تتجه بعض الاقتصادات إلى الانغلاق، تقدم أبوظبي نموذجا للانفتاح الاقتصادي الذي يجمع بين الاستثمار، والابتكار، والاستدامة في إطار واحد.
يتقاطع "أديبك 2025" مع الرؤية الاقتصادية الإماراتية التي تسعى إلى بناء اقتصاد متنوع قائم على المعرفة.
فالتحول في سياسات الطاقة لا ينفصل عن التحول الاقتصادي الأوسع الذي تقوده الإمارات، والذي يهدف إلى مضاعفة الناتج المحلي غير النفطي وزيادة مساهمة الصناعات المتقدمة في الاقتصاد الوطني.
ومن خلال تنظيم أضخم حدث طاقي في العالم، تؤكد الإمارات التزامها بمبدأ التنمية المستدامة المتوازنة، حيث لا تختزل الطاقة في النفط والغاز، بل تفهم كمنظومة متكاملة تشمل الكهرباء المتجددة والهيدروجين والتقنيات الذكية.
في ضوء التحولات المتسارعة في قطاع الطاقة العالمي، ينتظر أن يشكل "أديبك 2025" مؤشرا رئيسيا لاتجاهات السوق خلال العقد المقبل. فالعالم يدخل مرحلة جديدة تتقاطع فيها ثورة الذكاء الصناعي مع ثورة الطاقة النظيفة، لتعيد رسم مشهد الصناعة والتمويل والابتكار في آن واحد.
مختبر عالمي للحلول المستقبلية
وسيكون "أديبك 2025" بمثابة مختبر عالمي للحلول المستقبلية، حيث ستتلاقى رؤى الحكومات والشركات في مجالات التقنيات الصناعية، والطاقة المتجددة، والاستثمار الذكي، ضمن إطار متكامل يوازن بين الربحية والاستدامة.

نجاح الإمارات في تنظيم هذا الحدث العالمي عاما بعد عام، يعكس قدرتها على إدارة التحولات الكبرى بثقة واستشراف للمستقبل، ويجعل من أبوظبي عاصمة الفكر الطاقي العالمي التي تكتب فصول المستقبل من أرضها.
يأتي "أديبك 2025" في لحظة مفصلية من التاريخ الاقتصادي المعاصر؛ لحظة تتقاطع فيها قضايا المناخ، والطاقة، والتكنولوجيا، والتمويل.
وإذا كان القرن العشرون قد ارتبط بعصر النفط التقليدي، فإن القرن الحادي والعشرين يرسخ أبوظبي بوصفها مركزا لإدارة الذكاء الصناعي في الطاقة، ومختبرا عالميا لتجربة التحول نحو الاستدامة.
وبينما تستعد العواصم الصناعية الكبرى لإعادة رسم سياساتها الطاقية، يبقى "أديبك" بوصلتها الأوضح، ومنصة التقاء الفكر الاقتصادي العالمي الذي يصوغ اليوم ملامح اقتصاد طاقي أكثر كفاءة وعدالة وذكاء.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTYxIA== جزيرة ام اند امز