هل تتحول "طالبان" إلى ظاهرة سياسية فريدة خلال عصرنا؟ أم ستنتهي ضمن حدود جغرافيا أفغانستان كأمر واقع لفترة زمنية لن يطول مداها؟
في الحالتين، يبدو الأمر متعلقا بشكل مباشر بمشروع "طالبان" السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني في الداخل، وبركائز ومنطلقات سياستها بشأن علاقاتها الإقليمية والدولية.
الضوابط المطلوبة لأي من الخيارين متجانسة ومتقاربة إلى حد كبير، فمشروع الدولة المنشود داخليا يتطلب قبول مكونات المجتمع الأفغاني وقواه السياسية وتياراته الوطنية وانخراطها فيه على قاعدة المساواة والمواطنة مثلما يحتاج إلى دعم خارجي من جميع الدول المعنية بالملف الأفغاني على قاعدة توازن المصالح، والبقاء في حالة التقوقع على الذات يقتضي قبولا إقليميا ودوليا مبنيا على تقاطع المصالح مع الشعب الأفغاني لضمان عدم تفجر الصراع الداخلي مجددا.
القراءة الأولية للمواقف الدولية منذ بدء عملية الانسحاب الأجنبي، والأمريكي تحديدا، تكشف نمطا مغايرا لما كانت عليه مواقف دول كبرى حيال أحداث كبيرة أخرى.
في المشهد الأفغاني بدا الغموض والتردد في المواقف السياسية حيال راهن الحدث وتداعياته وآفاقه مشوشا، ولم يتبلور موقف حاسم أو حازم من قبل دولة بعينها أو كتلة دولية أو حتى من المجتمع الدولي، بتوصيفه السياسي، يحدد نقاط الالتقاء أو الافتراق مع "طالبان"، إذ لجأت المواقف جميعها إلى إبراز التقاطعات الممكنة مع الحركة التي من شأن اعتمادها وتطبيقها أن تسهم في بناء علاقات متوازنة، وطرحت تناقضات في الآن ذاته تجعل إمكانية التقارب بينهم وبين "طالبان" خطوة بعيدة المنال وفقا لبعض القرارات والخطوات التي اتخذتها الحركة مؤخرا ومنها إعلان تشكيلة حكومية مصغرة ومؤقتة.
هل انعكس الارتباك الأمريكي، كما بات يتفق على وصفه الجميع، بشكل ما على قرارات عواصم العالم التي أعلنت مواقفها حيال مستقبل أفغانستان؟ أم أن الدول الأخرى لم تكن على استعداد، أو لم تكن قد أعدت عدتها للتعامل مع حدث بهذا الحجم؟
نسبة الاحتمال في السؤالين واردة، لكن متابعة التحولات والانزياحات الدولية والجيوسياسية في عدد من الملفات التي تشكل نقاط اشتباك أحيانا، وأحيانا أخرى تكون ميادين صراع بين الدول، رسمت خلال العقد الأخير من الزمن ملامح نمط إدارة جديدة للعلاقات الدولية تمتزج فيها مصالح الخصوم وتتقاطع، وتتناقض فيها مصالح الحلفاء وتتنافر، فأوروبا بدت في مواقفها أقرب إلى النزعة الاستقلالية في مقارباتها للحدث الأفغاني وتداعياته عن حليفتها واشنطن، ووصل الأمر ببعض مسؤوليها حدود اقتراح تشكيل قوة أوروبية تمهيدا للخروج من تحت العباءة الأمريكية بطرفيها الأمني-العسكري، والسياسي، وتركت الباب مواربا أمام "طالبان" وأمام القوى المناقضة في سياساتها ومقارباتها للحليفة الكبرى واشنطن، في محاولة أقرب ما تكون إلى كسب المزيد من نقاط التلاقي مع موسكو وبكين ضمانا لمصالحها، في وقت تبدو فيه توجهات الإدارة الأمريكية نحو الصين وروسيا غير ناضجة بالنسبة للأوروبيين من حيث الرؤية ومن حيث التطبيق وأدواته.
ألا يعكس هذا النمط من السلوكيات الدولية حيال أفغانستان صورة جديدة لمستقبل العلاقات الدولية يبدو قيد التشكل حاليا؟.. عدم وجود موقف دولي موحد أمر طبيعي نتيجة الصراعات المستحكمة والمتحكمة بعلاقات الدول الكبرى في ما بينها وتناقض مصالحها، لكنه في الوقت ذاته يشير إلى عدم قدرة أي قوة دولية بمفردها على حسم الأمر لمصلحتها، ما يجعل القول بإمكانية بروز قوى دولية أخرى على المسرح العالمي واردا، سواء جاء بصيغة ذاتية مستقلة، أو بصيغة أحلاف وتكتلات تفرض ثنائية قطبية أو أبعد من ذلك نحو صيغة "تعددية قطبية" ترسي قواعدها تقاطع المصالح، حيث تلتقي، وتناقضها حيث ساحات المنافسة والتباين في الآن معا.
تراجع واشنطن كمركز للتحكم في كثير من القضايا الدولية كأفغانستان مثلا، أو ارتباكها في بعضها الآخر كالملف النووي الإيراني، بات ملموسا ومحط اهتمام عواصم كبرى حليفة لها أو معادية، ودفع البعض إلى إعادة قراءة مواقفه أو مقارباته أو سياساته حيال بعض القضايا بدوافع متعددة، منها ملء الفراغ الناشئ أو المحتمل أن ينشأ مستقبلا، ومنها التقاط الفرصة السانحة لاحتلال موقع الند المباشر وتوسيع دائرة نفوذه وفرض نظامه وتأمين مصالحه بعد قرار واشنطن بالانسحاب دون أي اعتبار لمصالح حلفائها.
سيبقى المشهد الأفغاني الناشئ مصدرا ثرّاً يغذّي أقلام وقرائح المحللين والمختصين والسياسيين لسنوات، تفاصيله الماثلة أشبه بالألغاز.. ويبقى سؤال كيف حدث ما حدث، يستولد سؤالا أكثر جدلية: لماذا حدث الذي حدث؟
مرحلة جديدة في سياق العلاقات الدولية تبدو كأنها غير قابلة للتفسير استنادا لمنطق وأدوات الماضي، فرضتها تطورات الحدث الأفغاني بعد عقدين من اشتباك القوى والمصالح وتناقضاتها وعداواتها السياسية والأيديولوجية.
وإلى حين تلاشي غبار الزوبعة الأفغانية، يجدر تتبع مسارات نشوء صيغ علاقات إقليمية ودولية غير تلك التي اعتادها العالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة