تُعدّ أفغانستان اليوم نقطة التقاءٍ محورية في التفاعلات الجيوسياسية بين القوى الآسيوية الكبرى، ولا سيّما الهند، وباكستان، والصين، في ظل تحوّلاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ أعادت رسم خريطة النفوذ في آسيا الوسطى وجنوبها.
فبعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021 وعودة حركة طالبان إلى الحكم، دخلت المنطقة مرحلةً جديدة من إعادة التموضع الاستراتيجي، تسعى فيها كل دولةٍ إلى ملء الفراغ بما يخدم مصالحها وأمنها القومي
تاريخيًا، سعت باكستان إلى جعل أفغانستان عمقًا استراتيجيًا ومجالًا حيويًا لاختبار علاقاتها الإقليمية والدولية.
فقد اعتمدت إسلام آباد على نفوذها داخل أفغانستان كوسيلةٍ لتأمين حدودها الغربية، وضمان وجود نظامٍ سياسيٍّ متعاون ومطاوع يمنع تطويقها من قِبَل الهند.
ومن هذا المنطلق، اعتبرت باكستان أي تقاربٍ أفغاني–هندي تهديدًا مباشرًا لتوازن القوى في شبه القارة.
وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى زيارة أمير خان متقي وزير خارجية حكمة الأمر الواقع باعتبارها مؤشرًا على سعي أفغانستان إلى إعادة تموضعها خارج الفلك الباكستاني، وتجنّب الانحصار في المدار الصيني، في إطار توجهٍ نحو موازنةٍ إقليميةٍ جديدة أكثر استقلالًا وتعددية.
لقد وظّفت نيودلهي أدوات القوة الناعمة — من المساعدات التنموية إلى مشاريع البنية التحتية — لترسيخ حضورها في المجتمع الأفغاني، معتمدةً خطاب التنمية والاستقرار بديلًا عن الخطاب الأمني التقليدي.
ومع ذلك، فإن عودة طالبان أوجدت واقعًا جديدًا فرض على الهند انتهاج سياسة “الانخراط الحذر”، التي تجمع بين السعي للحفاظ على نفوذها التاريخي وتجنّب الصدام المباشر مع السلطة الجديدة.
وهنا تتقاطع الحسابات الهندية مع مساراتٍ أخرى، أبرزها علاقاتها المتنامية مع إيران ودول الخليج، التي تتيح لها الوصول إلى الأسواق والممرات الآسيوية عبر طرقٍ بديلةٍ تتجاوز الأراضي الباكستانية.
أما الصين، فقد برزت لاعبًا اقتصاديًا متناميًا في المشهد الأفغاني من خلال انخراطها في مشاريع إعادة الإعمار ومبادرة “الحزام والطريق”.
وتعتبر بكين أن استقرار أفغانستان شرطٌ أساسيٌّ لحماية استثماراتها وتأمين ممراتها التجارية عبر باكستان وآسيا الوسطى.
ومن هنا، يتخذ التنافس الهندي–الصيني في الساحة الأفغانية أبعادًا استراتيجيةً تتجاوز حدود الاستثمار، ليصبح جزءًا من صراع النفوذ الأوسع بين القوتين في جنوب وشرق آسيا، وفي هذا الإطار، تظل باكستان هي الحلقة الجغرافية والسياسية التي تربط الصين بأفغانستان، بينما تمثل الهند الطرف المقابل المدعوم من بعض القوى الغربية.
وسط هذه المعادلة المعقدة، يبرز الدور الخليجي بوصفه متغيرًا جديدًا في ديناميات التوازن الإقليمي.
فدول الخليج — وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر — تمتلك شبكة علاقاتٍ متوازنةٍ مع معظم الفاعلين: الهند، وباكستان، والصين، والولايات المتحدة، كما تمتلك أدوات القوة الاقتصادية والنفطية والاستثمارية التي تخوّلها التأثير في مسارات التنمية والاستقرار الإقليمي.
وتكمن أهمية الدور الخليجي في قدرته على تحويل منطق "المنافسة الصفرية" بين القوى الآسيوية إلى فرص تعاونٍ اقتصاديٍ واستثماريٍ وتكنولوجي، من خلال دعم مشروعات البنية التحتية والطاقة والموانئ العابرة للحدود.
تتقاطع المصالح الخليجية مع المصالح الهندية والصينية في مجالات الطاقة والتجارة والاتصال، وتسعى دول الخليج إلى توسيع حضورها في آسيا الوسطى وجنوب آسيا باعتبارها أسواقًا واعدةً للاستثمار ومصادر متنوعة للطاقة والغذاء. وفي ضوء هذا التوجه، يمكن لدول الخليج أن تلعب دور الوسيط والموازن في التنافس الهندي–الباكستاني على الساحة الأفغانية، بما يسهم في استقرار بيئةٍ إقليميةٍ أوسع تخدم مشاريع التنمية والتكامل الاقتصادي.
من منظورٍ آخر، لا يمكن تجاهل الرؤية الأمريكية الرامية إلى إعادة ترتيب النظام الإقليمي عقب انسحابها من أفغانستان.
فالولايات المتحدة تراهن على شركاء إقليميين — كالهند ودول الخليج — لاحتواء النفوذين الصيني والروسي عبر “الاحتواء الاقتصادي والسياسي” بدل التدخل العسكري المباشر.
هذا التحوّل يعيد تشكيل أولويات القوى الإقليمية، ويفرض على الأطراف جميعها — بما في ذلك كابول — البحث عن توازنٍ جديد يضمن بقاءها ضمن المعادلة الدولية دون الوقوع في فخ الاصطفافات الحادة أو الانجرار إلى صراعات بالوكالة.
وفي ضوء هذه التحولات، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهاتٍ لمستقبل العلاقات الإقليمية حول أفغانستان:
الأول: ١-سيناريو الشراكة الاقتصادية، حيث تقود الهند ودول الخليج مشاريع التنمية والتواصل الإقليمي، بما يحوّل أفغانستان إلى محورٍ للتكامل بدل التنافس.
٢-استمرار الصراع التقليدي بين الهند وباكستان داخل الساحة الأفغانية، ما يعني بقاء التوترات دون حلولٍ دائمة .
٣-سيناريو التوازن الإيجابي، الذي يُتيح لكافة الأطراف بما فيها الصين ودول الخليج المساهمة في إعادة إعمار أفغانستان، بما يضمن استقرارًا نسبيًا وتنافسًا عقلانيًا.
في هذا السياق، تبقى العلاقة بين أفغانستان والهند محكومةً بمعادلة المصالح المتبادلة: فالهند ترى في كابول منفذًا جيوسياسيًا نحو آسيا الوسطى وفرصةً لترسيخ نفوذها الإقليمي، في حين تسعى أفغانستان إلى الاستفادة من الخبرة الاقتصادية والتكنولوجية الهندية دون الانخراط في محاورٍ معاديةٍ لأيٍّ من جيرانها.
ومن هنا، يبدو أن التوازن بين الهند وباكستان في الداخل الأفغاني لن يتحقق إلا عبر تفعيل دورٍ خليجيٍّ عقلانيٍّ يوازن بين أطراف التنافس، ويعيد إدماج أفغانستان ضمن شبكة المصالح الإقليمية الأوسع.
ختاما فإن الدور الخليجي بما يمتلكه من عناصر قوةٍ اقتصاديةٍ واستراتيجيةٍ وعلاقاتٍ متشابكةٍ مع مختلف الأطراف بات مؤهلًا لأن يشكّل أحد أعمدة التوازن الجديدة في آسيا. فبينما تسعى القوى الآسيوية الكبرى إلى تعزيز نفوذها عبر الممرات والمشاريع الكبرى، تمثل الدول الخليجية نقطة الارتكاز القادرة على وصل الشرق الآسيوي بالعالم العربي والإسلامي، وتحويل التنافس الجيوسياسي إلى تعاونٍ اقتصاديٍ واستراتيجيٍ متوازن.
وبهذا المعنى، لم تعد أفغانستان مجرّد ساحةٍ للصراع بين الهند وباكستان، بل تتحوّل إلى مختبرٍ لمعادلات التوازن الجديدة بين الشرق الصاعد والخليج الصاعد، وإلى مساحةٍ لاختبار قدرة الإقليم على الانتقال من منطق التنازع إلى منطق الشراكة والبناء المشترك و الشراكة الاستراتيجية الشاملة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة