مشهد الطائرة الأفغانية وهي تقلع من مطار كابول وتشبث الأفغان بها وسقوطهم منها سيظل المشهد الأشهر والأخطر في العالم.
كما سيظل المشهد الأقسى في تاريخ الحقبة الأمريكية، التي بدأت نهاية الثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي، واستمرت متأرجحة بين سقوط وصعود حتى وصلت إلى ذلك المشهد.
ولقساوة ذلك المشهد، راح كل شخص يعيد قراءته بالصورة التي تواكب انتماءه وميوله السياسية.
بعض الأصوات الأمريكية، التي تسعى لتجميل الصورة وخلق مبررات، ترى أن هذا المشهد يختزل حال العالم دون أمريكا، كأن الطائرة هي أمريكا وبقية العالم هم أولئك المتشبثون بها.
إنهم يعيدون تسويق فكرة أن العالم بلا أمريكا سيكون كأفغانستان بلا قوات أمريكية.
والحقيقة أن ذلك مردود عليه، فالمشهد يحتاج إلى قراءة مغايرة، فطائرة هاربة وهي منهزمة كفيلة بتقديم قراءة صحيحة أكثر من صورة المتعلقين بالخلاص الأمريكي، والذين يمثلون ختام ونتاج عشرين سنة لمشروع أمريكي غير ناجح في أفغانستان.
لم يكن السقوط الأمريكي في أفغانستان سياسيا وعسكريا فقط، بل كان سقوطا إنسانيا أيضا، ففكرة التركيز على إجلاء المواطنين الأمريكيين والذين عملوا معهم من الأفغان عنصرية بغيضة، فماذا عن بقية الشعب الأفغاني؟!
بعد عشرين عاما في أفغانستان يتأكد للجميع أن العقل السياسي الأمريكي بلا أساس، فلم يكن لديه مشروع أو منهج معرفي أو إنساني أو فكري أو حضاري، بل كان مشروعا عسكريا فقط فيما يبديه الواقع.
لقد ذهب الأمريكيون إلى أفغانستان عسكرا ومحاربين وعادوا عسكرا ومحاربين، فلم يذهبوا أصحاب مشروع متحضر.. لم يكن بقافلتهم علماء ولا مطابع، مثل الفرنسيين في حملاتهم العسكرية على الشرق نهايات القرن الثامن عشر، فقد ترك هؤلاء بعد سنوات قليلة من وجودهم كتبا ومؤلفات ومتاحف.
النموذج الأمريكي نموذج استعماري، لا قيمة حضارية به ستبقى.
وبالرجوع إلى تكلفة العشرين عاما الأمريكية في أفغانستان، والتي وصلت إلى 2.3 تريليون دولار، بحسب الرئيس جو بايدن نفسه، نجد أن الجزء الأكبر، وهو 89 مليار دولار، خُصص للجيش وقوات الأمن، والتي أثبت الواقع فشلها بعد سيطرة "طالبان" على كابول في ليلة واحدة.
أيضا نجد ضمن الميزانية الأمريكية 36 مليار دولار لإنشاء مؤسسات حكومية أفغانية، فيما لم نجد بين الميزانية بندا للتعليم وبناء الجامعات والبحث العلمي، لم يتركوا للأفغان ما يجعلهم يتذكرونهم، تركوا متاريس وقواطع إسمنتية وأبنية محاطة بأسوار الخوف.
لقد خسر الأمريكيون 2300 جندي من أبنائهم في حربهم الطويلة، وخسر الأفغان ما يصل إلى 100 ألف جندي أفغاني.
سيقول البعض إن السياسة غير الثقافة، والاستعمار ليس مخولا بنشر أفكار أو قيم أو بناء إنسان، وإن الأمريكان خرجوا من ديارهم مدفوعين بلعبة المصالح والمكاسب، وربما الانتقام بعد هجمات 11 سبتمبر، لكن حتى فكرة المكاسب والمصالح، التي أعلنوها في بداية احتلالهم أفغانستان، لم يتحقق منها إلا مقتل أسامة بن لادن، زعيم تنظيم "القاعدة" الإرهابي، فيما بقيت حركة "طالبان" لم تخسر شيئا طوال 20 سنة، بل ربما ربحت كل شيء بلا ثمن.
هنا الخوف، فإذا كان الأمريكيون يريدون بخروجهم من أفغانستان بهذه الطريقة توريط جيرانها، خاصة الروس والصينيين، فهذا سيجر المنطقة، التي نحن جزء منها، إلى أزمة تتمثل في إعادة تشكيل النسخة الجديدة من التنظيمات الإرهابية.
الروس لديهم خبرة في أفغانستان بعد حرب استمرت عشرة أعوام بدأت عام 1979 وانتهت بخروج آخر جندي سوفييتي عام 1989، لكنهم حاليا أعلنوا قبولهم التعامل مع "طالبان"، وقد يكونون أول المعترفين بها في حكم أفغانستان مقابل تفاهمات، أولها عدم تهديد المصالح الروسية في الداخل والخارج.
كذلك الصينيون، الذين لديهم القدرة على تحويل أي صراع إلى استثمار وتنمية، إذ ستدخل الصين إلى أفغانستان وليس في يدها بندقية ولا رشاش، وإنما ستحمل أدوات الصناعة والاستثمار، وبالتالي سيكون الوجود الصيني داخل أفغانستان مقبولا من "طالبان" المتلهفة إلى شريك ينقذها من الخراب الذي تركه الأمريكيون.
بقي نحن هنا في عالمنا العربي، فهل يمكن أن نتصور الحال لما هو قادم من الأيام بعد سيطرة الحركة على الأراضي الأفغانية وانعكاسات ذلك على البلاد العربية؟
لنا تساؤلات كثيرة وجب إخضاعها للبحث العميق من أجل الوصول إلى كيفية صحيحة للتعامل مع إرث أمريكا، التي أرادت أن تنجو بنفسها من أفغانستان فتركتنا في سيناريوهات خطر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة