جاء إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن انسحاب قواته من أفغانستان في موعد أقصاه 11 سبتمبر القادم، بعد لقائه الرئيس الأفغاني أشرف غني.
تاريخ الخروج كان مقصودا منه أن يعطي رسالة للعالم بأن الولايات المتحدة تريد فتح صفحة جديدة مع سلوكها العالمي.
زاد الإعلان ضجيجا مرة أخرى بعد لقاء جرى في "البيت الأبيض" بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، عندما صرح "بايدن" مرة أخرى بأن أمريكا سوف تنهي وجودها في العراق في موعد أقصاه نهاية العام الجاري.
في هذا الإعلان وذاك، لم يكن هناك لبس ولا تأويل، فلا الدولة الأمريكية تستأذن أحدا، ولا كانت تعلن انتهاء المهمة، خاصة أن "طالبان" باتت تدق أبواب عواصم ولايات عدة، بينما كانت العناصر الموالية لإيران تمطر مناطق الوجود الأمريكي بالصواريخ.
أصبح على القيادتين الأفغانية والعراقية أن تقدر موقفها وأن تحدد شكل خطواتها القادمة بعد أن ارتفعت عنها المظلة الأمريكية.
صحيح أن هناك تلميحات متعددة من القيادات الأمريكية بأن الخروج لا يعني التخلي عن حلفائها، فهي قد قامت بالتدريب، كما أنها منحت وأعطت الكثير من السلاح، وهي في نفس الوقت لن تسمح للعدوان أن يستمر، خاصة أن لها قواعد وقطعا بحرية قريبة فيها الكثير من قوة النيران.
ما هو مهم لدى أمريكا أن تنتهي "الحروب الأبدية"، أي تلك التي لا تنتهي وليس لها نهاية في المستقبل القريب، ولم تكن هذه وتلك لا أول الحروب ولا آخرها، التي بعدها قررت واشنطن أن تترك الجمل بما حمل وتخرج إلى بحار الله الواسعة، وقارتها البعيدة، لكي يكون فيهما حصن وملاذ.
وللحق، فإن وقائع "الآن" لا تشكل سابقة، فقد خاضت الولايات المتحدة حربا عالمية كاملة "الأولى"، وبعدها قررت التخلي عن النظام الدولي، الذي أسهمت في صنعه بعد انتصار الحلفاء، فلا دخلت في عصبة الأمم ولا غيرها من التنظيمات.
وكانت النتيجة نشوب الحرب العالمية الثانية، فلم تترك أمريكا العالم للمرة الثانية، ودخلت وتدخلت في كل منظمة دولية وعالمية وبثقل كبير.
بعد ذلك تكررت "الحروب الأبدية" في فيتنام وأفغانستان والعراق، والآن يبدو أن الدرس وصل، وأن موعد الرحيل قد حل، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، وربما كان لواشنطن عذر أن موسكو أيضا عاشت ذات الحرب الأبدية في أفغانستان، وانتهى الأمر، ليس فقط بخروج الاتحاد السوفييتي، وإنما انهارت معه الدولة السوفييتية.
على كل الأحوال، فإن المراقبين العسكريين يميزون بين الإدراك أو الفهم الإنساني Perceptio والأهمية الحقيقية للقوة الأمريكية، والتي تنبع من حقيقة أن الولايات المتحدة لا تزال قوة عظمى قادرة على توظيف عناصر القوة الصلبة والناعمة ونشر القوات الحربية على مستويات كونية واسعة.
وهذا الأمر لن يتغير بعد الانسحاب الأمريكي، فلا تزال القوة موجودة في الجوار القريب، سواء على أسطح حاملات الطائرات أو حتى من خلال التوجيه في القيادة الاستراتيجية الأمريكية للطائرات المسيرة أو الصواريخ أو أنواع مختلفة من الذخيرة الحية.
ولكن الإدراك في الحقيقة مختلف، فالولايات المتحدة لا تنسحب فقط من الشرق الأوسط وإنما من مناطق واسعة من العالم، والواقع أنها تنسحب نتيجة ضعف كامن داخل بناء القوة الأمريكية، التي باتت تعاني الانقسام الشديد بين اليمين واليسار، والجمهوريين والديمقراطيين، والتقدميين والمحافظين، ولا يقل عن ذلك أهمية الانقسام بين الولايات نفسها، التي لم تستطع في دولة واحدة التوافق على سياسة موحدة للتعامل مع جائحة كورونا.
عدم الاستقرار بات سمة مميزة للدولة الأمريكية التي عاشت قفزات في الأيديولوجية القائدة للدولة خلال القرن الحالي، من أول أفكار المحافظين الجدد في عهد الرئيس الثالث والأربعين جورج بوش الابن، إلى التقدمية الليبرالية مع الرئيس الرابع والأربعين باراك أوباما، إلى المحافظين القوميين البيض في إدارة دونالد ترامب الرئيس الخامس والأربعين، حتى تصل إلى مشروع جديد لقيادة العالم من خلال الخروج من مناطق التوتر والتكلفة في عهد الرئيس الحالي السادس والأربعين جو بايدن.
السياسات الخارجية للرؤساء الأربعة مثلت منزلقا، ليس فقط لحربي أفغانستان والعراق، وإنما كان كامنا داخلها تصور أن الرسالة الأمريكية للعالم تحمل بركات أمريكية داخلها، تضغط الزمن فيجري تحقيق ما تحقق في الولايات المتحدة على مدى أكثر من قرنين من الزمان.
في الواقع العملي لم يكن ذلك ممكنا، وإنما أكثر من ذلك، فجّر البلدان التي أصابتها الرسالة الملعونة.
وحتى الدروس الأمريكية لم يتم أخذها في الاعتبار، فلا كان هناك استيعاب لتجربة جورج واشنطن في الحرب مع بريطانيا العظمى، التي وهي لم تخسر معركة واحدة فإنها لم تكن جاهزة عبر المحيط لتستمر في حرب لا نهاية لها، وتبدو ذات طبيعة أبدية ليس لها سقف في التكلفة، ولا كان الدستور الأمريكي باحتوائه على العبودية مفيدا في التعامل مع واقع أكثر تعقيدا بالطائفية في العراق وسوريا أو القبلية في أفغانستان.
الخروج الأمريكي لا يزال في آخر ساعاته، ولا يمكن لآثاره أن تتحول إلى أجسام صلبة قبل زمن.
ولكن إقليم الشرق الأوسط، الذي يبدو أكثر معاناة من أقاليم العالم الأخرى، في حاجة إلى درجة من النضج تسمح بتبريد حالته الساخنة بالنزاعات والصراعات، وتخلق حالات من المصالحة التي لا بد منها في التعامل مع واقع معقد وغير قابل للتماسك.
التقدير هنا هو أن يكون ملء الفراغ في الإقليم، ليس من قبل قوى أخرى مثل روسيا أو الصين، وإنما من خلال قدرة الأطراف الإقليمية الرئيسية على الائتلاف فيما بينها.. كيف يحدث ذلك؟ تلك هي القضية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة