يشهد العالم منذ سقوط العراق وحتى اندلاع موجة الربيع العربي، وما تبعها من تفكك عدد من الدول العربية المهمة وانتشار الفوضى (الخلاقة)
يشهد العالم منذ سقوط العراق وحتى اندلاع موجة الربيع العربي، وما تبعها من تفكك عدد من الدول العربية المهمة وانتشار الفوضى (الخلاقة) التي أرادها الامريكان وخططوا لها بشكل علني، انتقالا دراماتيكيا، من العنف والإرهاب المفرد «المتوقع»، الى «التوحش المركب» في حجمه ووتيرته ونوعيته. يشهد بذلك ما حدث في المنطقة العربية، وما يزال يحدث الى اليوم، وما شهدته وتشهده العديد من البلدان الاخرى، من هجمات وحشية لا تبقي ولا تذر، عشوائية ولا إنسانية ولا أخلاقية.
ظهور فئة جديدة من هذا التطرف تتسم بخاصية غير مسبوقة في التاريخ وهي الحرب ضد الجميع، فإذا كانت «القاعدة» تركز جل جهدها ضد من تسميهم «الكفار» وهجماتها ضد ما كانت تسمية «دار الكفر»، فإن الفصيل الجديد من الإرهاب المتوحش، يكفر الجميع ويضرب في كل اتجاه، بدءا من الداخل العربي الإسلامي الذي له النصيب الاوفر من التقتيل والتنكيل، ووصولا الى ديار «الكفر»، والتحول من نظرية الغزوات «الافتراضية» والهجرة والتكفير السريين، الى الغزوات الفعلية، وصولا إلى إعلان الدولة الإسلامية بالقوة في جزء من العراق وسوريا وليبيا وغيرها من المناطق في افريقيا وآسيا، في شكل نواتات لإمارات إسلامية تجري فيها بروفات تمهيدية للخلافة الكبرى، والبدء فورا في تنفيذ احكام الشريعة، وفقا لقراءة مخصوصة للنص الديني.
الذين يعبرون اليوم عن دهشتهم من هذا التوحش، وهذا الايغال في التطرف والظلامية، يعمدون على صعيد الخطاب بفصل التوحش من جذوره الأيديولوجية والتربوية والثقافية، ويوحون وكأن داعش ظهرت هكذا من تحت الأرض فجأة، ومن دون مقدمات، ولذلك يقفزون مباشرة الى النتائج، من دون المرور بالأسباب والمقدمات، فلحظة التوحش لا ترتبط عندنا بنوعية التعصب الديني المولد للتكفير والإخراج من الملة وتبرير القتل فحسب، ولا هي نتيجة مباشرة للتدخل الخارجي والعدوان الاستعماري فحسب ( فقد سيطر الاستعمار الغربي على بلاد العرب عقودا طويلة في السابق)،
وانما هو أيضا مرتبط بلحظة تفكك الاستبداد في بعض البلدان العربية، وبسقوط الدولة الوطنية وفشلها او ترهلها، حيث توقفت عن القدرة عن التجدد، ولذلك رأينا وبشكل جلي، أن التوحش الإرهابي غير المسبوق قد ملأ الفراغ، ليكون بديلا عن الاستبداد، وتعبيرا عن الكفر بالدولة العربية الوطنية او القومية، وتلك مفارقة نكاد نختص بها على الصعيد العالمي في التاريخ المعاصر.
أما البطانة الفكرية التي مهدت وبسطت الطريق لمثل هذا التحول، فهي لم تأت فجأة، فمنذ بداية عشرينيات القرن الماضي، تشكلت النواة الأولى لخطاب التطرف الديني (في سياق البحث عن استعادة ما مضى من قوة ونهوض)، وتحديد الهدف النهائي، وهو استعادة دولة الخلافة ( نلاحظ هذا ما تفعله داعش حاليا)، وهذا ما لم يخفه الإسلام السياسي في جميع مراحل تطوره كهدف نهائي، وقد أسهم هذا التيار الواسع في تحريف وعي جيل كامل،
من خلال الإصرار على طرح الأسئلة البعيدة عن حقيقة أزمة المجتمع، فيتحدث عن الهوية والتغريب والإيمان والكفر والخلافة والأمة وقطع اليد والرقاب، بدلا من الاستجابة لتحدي واقع معقد تتقاذفه مصادر تأثير مختلفة متباينة، تتصدرها أسئلة التنمية والتحرر وهموم الناس ومصاعب التنمية وتفشي البطالة والأزمات المالية والاقتصادية المتكررة، وعدم الاستقرار الاقتصادي وصعوبة توفير لقمة العيش للملايين من الناس.
صحيح ان أسئلة الهوية المرتبطة مباشرة بالانشغال الديني يمكن ان تلح علينا كأفراد او كمجتمع مسلم، ولكن المشكلة ان هذه الاسئلة ما فتئت تتوسع وتتجذّر في مواجهة تحديات الحداثة والتقدم والمواطنية العالمية، وليس بموازاة الكفر والايمان مثلما يحاول الضالعون في طرح الاسئلة المزيفة، فهذا المجتمع المسلم ليس في حاجة الى من يذكره بحقيقة هويته، فقد حافظ على الاسلام 15 قرنا في العقول والقلوب في مواجهة حملات المغول والتتار والصليبيين والاستعمار، لأنه أصبح جزءا من نسيجنا الفكري والوجداني.
وحتى في ضوء تنامي التأثير الإعلامي الذي بات ينسج بقوة سطوته في عالم «الحقيقة» في الأذهان كما يريدها أصحاب المصلحة والتخطيط والتمويل لتتحول هذه «الحقيقة» إلى مقدس لا يرتقي إليه الشك في نظر وعي عام يمتلك استعدادا تلقائيا للتسليم والتصديق في ظل خفوت الوعي الفكري الحي وسيطرة نوع من «الفكر» الديني – الطائفي ضيق الأفق والذي يجر الناس إلى التقاتل بترسيم حدود وأسوار بين المواطنين على أساس ديني وطائفي.
وفي ظل هذا الواقع المرتبك بات الخطاب الديني يمتثل في الافكار والتصورات والرؤى والبرامج السياسية (الدينية) للتيارات والجماعات الدينية والتي تصنف اليوم ضمن تيارات الاسلام السياسي التي وسمت العقدين الأخيرين بسمات التطرف وتبرير العنف في إطار رد الفعل على التدخل الخارجي في بلاد المسلمين، ونتيجة لفقر البيئة الثقافية والفكرية وتفشي الاحباط بين الجماهير، وفشل مشاريع التنمية والوحدة القومية.
ولذلك فإن الذين يستغربون ظاهرة داعش، يتجاهلون تماما انها كانت نتيجة وليست سببا، وان ما بذر في حقولنا نجنيه اليوم، وان انهزام هذا التنظيم الإرهابي في العراق وسوريا وليبيا لن يكون النهاية، لأن الأسباب ما تزال قائمة، ومن المرجح ان نشهد المزيد من جولات التوحش، في ظل ما يشهده الوطن العربي من تفكك سريع وانتهاء لدور الدولة الوطنية، فالعراق يتجه حثيثا نحو التقسيم الى ثلاثة اقاليم طائفية فدرالية (سنية وشيعية وكردية)، استنادا الى جملة معطيات على الأرض فرضتها نتائج الاحتلال الامريكي الذي كان (خطأ) كبيرا مكن ايران وميليشياتها وداعش من ملء الفراغ بالفوضى والتوحش المتبادل والتكفير المتبادل، والدخول في مرحلة حرب جديدة تحت شعار ( نحن او انتم).
فالصفحة الثانية من صفحات الغزو، سوف تبدأ بملف التقسيم لمستنقع العراق الحالي، بعد ان وصل خطر داعش الداهم الى مسارح وساحات باريس في غزوة باريس وتفجيراتها وقتل المئات من ابناء الدول الاوروبية الاخرى، مع توعد محموم بقرب ضرب امريكا في عقر دارها، بعد تمدده وسيطرته على ثلث العراق وسوريا، وهو بكل تأكيد نتيجة طبيعية لغزو امريكا للعراق: إما داعش والميليشيات تنخر وتقتل وتهجر، وإما القبول بالتقسيم الذي سيفتح صفحة جديدة للتهجير والتقتيل وتبادل السكان ونشوء كيانات جديدة على انقاض الكيانات القائمة. ولذلك فالأوضاع تتدهور والتوحش المتبادل بلغ حدودا غير مسبوقة في المنطقة، ويزحف بسرعة مخيفة الى كل دول الجوار بتسارع محموم والمشهد يزداد غموضا، والتهديد بفوضى عالمية أصبح واقعا.
إن التوحش إذن هو مظهر خارجي لازمة عميقة متعدد الاوجاع، وهو يتزامن مع حالة التفكك والتدمير لكيان الدولة الوطنية العربية، وانتهاء مرحلة الجيوش وبزوغ عصر الميلشيات. واذا كنا ندرك هذه الحقيقة جيدا فلا بد من التأكيد على جانب ثان، غالبا ما يتم تغييبه- تضليلا- هو التوحش الاخر الذي يدفع نحو أعماق الهمجية، برؤية سينمائية هوليودية، فمن حيث الرؤية فإن أمريكا كما تخيلها المؤسسون الأوائل ( أمة مسالمة) متميزة عن أوروبا «الغارقة دوما في الحروب والدماء والصراعات والثارات»، أصبحت في عصر الجمهوريين الجدد أمة محاربة في منافسة مستعرة مع نفسها، عدوانية خارج الحدود استهوتها لعبة الهيمنة على العالم وتسييره، وأمريكا اليوم، امريكا القيادات وأمريكا الجنود في غوانتنامو وفي أبو غريب - كرمزين دالين- هي الوجه الأكثر فظاعة لنوع آخر من التوحش «المتحضر».
* نقلا عن صحيفة الأيام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة