الروائي المصري علاء فرغلي: اكتشفت في الصحراء عالما سحريا مهجورا
"العين الإخبارية" تجري حواراً مع الروائي المصري علاء فرغلي حول ملامح عالم روايته الصادرة حديثا "وادي الدوم".. ماذا قال عنها؟
ما أن تطأ قدماك "وادي الدوم" حتى تستشرف إقبالك على مغامرة حدودها الصحراء، شركاؤك فيها يتحدثون بلسان قبلي مسترسل، يتوارثون أخبار "الدومة" ويُدونون ذاكرتهم، يخطفك بطل اسمه "الشاهين" يصير للقارئ دليلا، وصانعا لأسطورة واحة من نخيل ريّان، تصبح على مدار السنوات جعبة تتسع للتاريخ والأحلام واللصوص.
في روايته الأحدث "وادي الدوم"، الصادرة عن دار "العين" للنشر، ينسج الروائي المصري علاء فرغلي عالماً مُغايراً عن عالم روايته الأولى "خير الله الجبل" التي حصل بها على جائزة ساويرس لعام 2017.
وفي حوار أجرته معه "العين الإخبارية" دار حديث عن ملامح هذا العالم الجديد الذي استهله بأهازيج من تراث الدومة، ومناهل كتابته التي تتداخل بها فصول الخيال والتاريخ، وقصة زياراته الميدانية لأرض الرواية، وكذلك ثيمة المغامرة التي يقول إنها "روح الإنسان وطريقه للعيش".. هنا نص الحوار..
- افتتحت الرواية بمواجهة مع طمس الأثر تسللت منه لبدايات الحكاية ومهدها.. حدثنا عن ذلك الاختيار كعتبة للسرد؟
لكل كاتب طريقته في الاستهلال، وكلما كان يتحلّى بشيء من البراعة نجح في اجتذاب القارئ إلى عالمه والسير به في دروب الحكاية، في "وادي الدوم" حاولت أن أبدأ من الذروة، في لحظة آنية، لحظة زخم مفعمة بالحدث وبالشخصيات ذات الأثر، ثم تركت اللحظة تتمدد بعد مشاهد أولى متوالية في كل الاتجاهات وعبر فترات تاريخية متعددة، لقد حاولت أن ألقي بشيء من الغموض حول طبيعة الحدث، لأحاول مع القارئ فكّ طلسمه شئيا فشيئا، ولنستغرق معا في رحلة تاريخية ربما تفسّر شيئا مما يدور.
- لو اعتبرنا أن ثمة نقطة ضوء أو إلهام أولى ألهمتك للولوج إلى عالم الصحراء الغربية الغامض وغير المطروق.. ماذا ستكون؟
كانت هذه النقطة شخصية ذات ملامح أسطورية، رأيتها مصادفة، صائد حيوانات جبلية، شاب ممتلئ الجسد ثابت النظرة، يجابه الضواري في المواكر ومعامر الجبال المظلمة، يتحداها، لا يخرج من الكهف إلا وقد كبّل الضبع أو الذئب وحمله وعاد به إلى قريته.
تلك كانت البذرة الأولى البارقة التي أومضت فنشرت الضوء أمامي لألج إلى هذا العالم، وشيئا فشيئا انزلقت قدمي حتى ساخت في رمل الصحراء لأكتشف عالما سحريا مهجورا وكنزا إنسانيا وتاريخيا لا يعلم به أحد في هذه البقعة البعيدة التي تمثل النسبة العظمى من مساحة مصر، هناك تمتد الصحراء وتتسع مساحة الرؤية والتأمّل، وتتحول نقطة الضوء إلى عالم كبير واضح المعالم والأبعاد.
- أشرت إلى كتاب "الصّاير" باعتباره مرجعا لتراث "الدومة" وتدوين لشيوخها وللتاريخ المجتزأ وانحياز الرُواة.. حدثنا عن هذا الكتاب ورمزيته في مشروعك؟
الصاير، هو الدفتر الذي يدوّن فيه أشياخ "الدومة" أخبار واحتهم، ووقائعها، هو الذاكرة التي يتوارثها أبناء الدومة، جيلا بعد جيل، ويتوجب على كل منهم أن يحفظها كما يحفظ روحه بين ضلوعه، هو بمثابة هوية المكان وحقيقته، دائما في حوزة الأكبر سنا ومقاما، الذي يمتلك الصواب والحكمة والقدرة على وزن الأمور والمفاضلة، ويعرف ما يجب أن يدوّن وما يجب أن يسقط في طي النسيان.
هو أشبه بدفتر الأنساب الذي تتميز به بعض الثقافات المحلية في مجتمع الصعيد والواحات. والحقيقة أن ذاكرة المكان لا يحفظها فقط دفتر "الصاير" بقدر ما تحفظها عقول أشياخها وشوّابها، هؤلاء الذين يشبهون نخيل الدوم متجذرون في عمق الأرض، يقاومون الجفاف والقيظ ويظلون على عطائهم.
- أودعت بين يدي بطلك "الشاهين" مفاتيح الاكتشاف والدهشة وعالم الوادي الريّان.. من هو بطلك؟ وهل ثمة تماس بينه وبين بطل تاريخي حقيقي؟
ما يجعل البطلُ بطلا هو مقدار ما يبذله من حركة وتغيير وما يتمتع به من شغف ورغبة في المغامرة، ولا أعرف بطلا تاريخيا لا يتمتع بهذه الروح، الأنبياء والزعماء والفنانون والمكتشفون، وبالتالي فالتماس موجود بين الشاهين وبين البطل التاريخي بمفهومه الكبير.
في روايتي الأولى كان البطل طفلا لا يتجاوز 7 سنوات، لكنه كان مشبعا برغبة الاكتشاف ويملك من الشغف ما يدفعه دائما للحركة والاطلاع وعن طريقه رأينا تفاصيل الرقعة التي تدور فيها أحداث الرواية واطلعنا على أسرارها.
أمّا في رواية "وادي الدوم" فكان البطل دليلا صحراويا دائم الحركة والبحث مدفوعا بشغفه لاكتشاف واحة أسطورية مفقودة حتى اهتدى إلى الدومة، المغامرة هي روح الإنسان وطريقه للعيش، هكذا أرى، السفينة لم تصنع من أجل الرسو على الشاطئ الآمن لكن لخوض عباب البحر والمخاطرة، وحين ابتكرت هذه الشخصية الروائية فإنني في الحقيقة كشفت عن جانب من جوانب شخصية إنسانية حقيقية.
- جعلت الرواية بوتقة انصهرت في باطنها وقائع كبرى وعشرات السير وبحث دائم عن جماليات الصحراء.. هل تعاملت مع "الوادي" كسيرة مصغرة مُتخيلة عن مفهومك للوطن؟
نعم، إلى حد بعيد.. لقد كان "وادي الدوم" بمثابة وطن صغير لسكانه، وصورة متطابقة للوطن الكبير، هو البقعة التي بناها أهلها ودافعوا عن وجودها بالدم والعرق، هي الأرض المعطاءة التي تكفي أهلها وتفيض على الآخرين، الأرض التي تبحث عن السلام لكنها لا تبني سورا حولها، بل تظل مشرعة الأبواب أمام كل عابر وكل مسالم وكل باحث عن الأمان، تتعرض للأطماع والحروب والغزوات والغارات على مدار تاريخها لكنها تظل قادرة على امتصاص هذه الأمواج وتذويبها في نسيجها، كل الوقائع التي تعرضت لها "الدومة" كانت جزءا مما تعرض له الوطن الكبير.
كما كان في اختيار مفهوم "الدوم" ظلٌ ما للإنسان الذي يسكن هذا الوطن الكبير منذ آلاف السنين، الدوم الذي يستغرق نحو 30 عاما حتى يبني جذوره لتصل إلى عمق الأرض ليرتوي ويثمر ويعطي خيره، ثم يصبح عصيا على الموت أو الاجتثاث، تماما مثل المصري الذي يرتبط بالأرض، لا تستطيع قوة ما أن تجتثه لتزرعه في أرض أخرى.
- قمت بصياغة الإنسان الصحراوي بتكوينه وتفاصيله.. كيف اقتربت من هذا المجتمع بتفاصيله الإنسانية والتاريخية بهذا القدر؟
مهمة الكاتب أن يسبر غور العالم الذي يتناوله، أن يتعايش مع الحجر والبشر، حتى يتمتع بالصدق فيما يقول، الصدق الفني الذي ينتقل بالتبعية إلى القارئ فيتفاعل مع قصته، وحين شرعت في كتابة "وادي الدوم" اطلعت على كثير مما كتب عن هذا العالم وتاريخه، ثم لجأت إلى المعايشة فتجولت بين الواحات الأربع الكبرى؛ البحرية والفرافرة والداخلة والخارجة، ورأيت كثيرا من تفاصيل المعيشة وهموم سكانها وأحلامهم.
وحاولت الاطلاع على تفاصيل العالم الصحراوي الذي يختلف عن عالم الواحات. وهناك تصور خاطئ أن إنسان الواحات هو البدوي الذي يهوى حياة التنقل والرعي، بينما الحقيقة أن إنسان الواحات هو إنسان يميل إلى الاستقرار والزراعة والبناء، بما ينعكس على طبيعة المجتمع النفسية والاجتماعية والثقافية.
- في الرواية مراكز للأساطير والقصص الشعبية.. حدثنا عن توظيفك للأسطورة كأداة من أدوات كتابتك للرواية
الأسطورة جزء من الحياة اليومية، تختلف من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى، لكنها موجودة وتؤثر في حياتنا، وحين لجأت إلى استخدامها داخل الرواية، كان ذلك جزءا من نسيج البيئة والمجتمع وليس في شكل غرائبي كما يرد في كثير من الكتابات، وتكون الأسطورة أحيانا الملجأ الذي يتجه إليه الإنسان لتفسير الغامض والحصول على إجابة آمنة لما يخيفه أو يقلقه.
- افتتحت فصول الرواية بهوامش من أشعار وأهازيج صحراوية.. كيف استدللت على هذا التراث وكيف تصف سماته الشعرية باعتبارك أيضا شاعرا؟
حين يرغب علماء الاجتماع في دراسة مجتمع ما، فإنهم غالبا ما يلجأون لدراسة فنونه، من غناء وأشعار وحواديت وأساطير وملاحم وسير شعبية، باعتبار الفن مرآة المجتمع.
وفي المجتمع الصحراوي ومجتمع الواحات القريب منه نرى بوضوح أهمية القصيدة الشعرية والغناوة، التي تمثل ذاكرة خاصة لحفظ التراث، من عادات وتقاليد تمجد القيم الإنسانية من شجاعة وفداء ومروءة وكرم وشرف، وتحتفي بالإنسان، وبأنشطته المحمودة مثل الزواج والحج والعمل، في أساليب تعبيرية رائقة ومختزلة مستوحاة من مفردات المكان وتفاصيله، لذا كان عليّ دراسة الأغنية الشعبية في الواحات وأغاني البدو وفن الحكي في الصعيد.
- الرواية تحتاج إلى "نَفَسٍ طويل" في القراءة.. هل أقلقك هذا الأمر؟
نعم، كنت قلقا من أن أجهد القارئ بتداخل الأحداث وتعدد الأبطال والشخصيات واستخدام كثير من المفردات المحلية التي يستخدمها أهل الصحراء، لكنني قررت أن أطلق العنان لقلمي عند الكتابة وأن أخوض التجربة حتى نهايتها.
أنا لا أريد أن أجهد القارئ وأن تصل كتابتي إلى الجميع، لكنني في الوقت ذاته لا أحب أن أكون سطحيا أنتقص من القيم الجمالية للكتابة من أجل تحقيق نسبة قراءة أكبر، والحقيقة أن استقبال الرواية كان مفاجأة سارة بالنسبة لي، واكتشفت زيف الادعاء بأن القارئ يبحث عن اللغة البسيطة والحكاية الواضحة المباشرة، فلدينا قارئ واعٍ يقدّر الفن ولديه الاستعداد لبذل الوقت والجهد في القراءة والاستمتاع.
- رغم أن كلا منهما يدور في عالم مغاير.. هل ثمة خيط أدبي وإنساني تُحاول تتبعه من خلال مشروعي "خير الله الجبل" و"وادي الدوم"؟
ربما يكون هذا الخيط -فضلا عن كون المكان هو محور الحكي والبناء- هو الإنسان خافت الصوت، الذي يعيش بعيدا على هامش الحياة، ولا يجد من يعبر عنه وعن طموحاته وأحلامه وهمومه، الإنسان الذي يكتفي بالحياة في سلام يبحث عن الطمأنينة والسلام والعدل.