لعدة عقود هيمن عدد محدود من حكومات الدول المتقدمة اقتصادياً على أولويات العمل المناخي فانحرفت به عن الشمول المفترض في أجندة عالمية التوجه تتناول أموراً خطيرة التحديات وعظيمة الفرص في آن واحد.
فبعدما اختُزل مفهوم الاستدامة ليعني العمل المناخي وحده، تم اختزال العمل المناخي نفسه لينحصر في تخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ، واستمر مسلسل الاختزال المضلل حتى تردد على ألسنة بعض العاملين في مؤسسات دولية أن "الأمر برمته يتعلق بالكربون وسعره ولدينا نماذج التسعير المناسبة للحالات المختلفة" هكذا!
لا ريب أن للانبعاثات الكربونية مخاطرها المهددة للمناخ حقاً، وأن آليات الأسعار لها أهميتها، وأن تخفيف الانبعاثات أمر التزمت به الدول مع تباين في حدود الالتزام والتنفيذ؛ ولكن العمل المناخي، كما سيتضح، هو في قلب عملية التنمية وشديد الارتباط بمحددات النمو بما يجعل التخلي عن نهج الشمول والتكامل في التعامل مع عناصر العمل المناخي ضاراً بالمجتمعات واقتصاداتها بل سيبدد جهود العمل المناخي نفسه سدى.
وعندما تبنت 197 دولة اتفاق باريس بوثيقة ملزمة في عام 2015 في مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين الذي تضمن التزامات لم تقتصر على خفض الانبعاثات الضارة ولكنه امتد للعمل على التكيف مع آثار تغير المناخ كما وفر إطار عمل للتحول العادل نحو عالم منخفض الكربون. كما تضمنت الوثيقة بنوداً لتقييم التقدم على مستوى للحفاظ على ارتفاع درجة حرارة الأرض بما لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية فوق متوسطاتها إبان الثورة الصناعية الأولى.
ورغم هذا الاتفاق الدولي فإن تنفيذه شابه قصور شديد، وبدلاً من أن تخفض الانبعاثات الضارة بما حدده العلماء بما لا يقل عن 45% حتى عام 2030 فإذا بالدول المسؤولة عن هذه الانبعاثات تزيدها بنحو 15%.
وفضلاً عن التقارير العلمية المحددة لعواقب التقاعس في العمل المناخي، أمسى عموم الناس شهوداً وضحايا لما يعانون منه بمزيج من أعاصير وفيضانات وحرائق في الغابات وموجات ارتفاع لدرجات الحرارة لافحة غير مسبوقة وفي غير مواسمها لتشير جميعها إلى مسؤولية التغير المناخي عن حدة التقلبات واضطراب الطقس.
رغم ادعاء التركيز على تخفيف الانبعاثات كأولوية لم يطرأ تحسن ملموس في الأداء وفقاً لتقارير اللجان العلمية العالمية والوطنية؛ ولم يكن القصور في تنفيذ اتفاق باريس محصوراً في مجال التخفيف ولكنه امتد إلى أبعادها الأخرى.
وللتبسيط أشبه التعامل مع تغيرات المناخ بحرب يخوضها العالم؛ خط الدفاع الأول هو تخفيض الانبعاثات الضارة، وقد أصابه دمار استوجب اللجوء لخط الدفاع الثاني المتمثل في التكيف في العمل المناخي الذي جعلته قمة شرم الشيخ للمناخ من أولويات محاورها في إنفاذ التعهدات بما تضمنته من ملفات إدارة المياه وقطاعات الزراعة المستدامة ونظم الغذاء ومقاومة التصحر وحماية الشواطئ والحفاظ على الغابات والطبيعة والتنوع البيولوجي.
ولما كان خط الدفاع الثاني يعاني من الوهن لطول فترات إهماله لافتراض سخي بأن العالم سينجز متطلبات تخفيف الانبعاثات الضارة بالمناخ بما لا يدعو لبذل جهد في التكيف مع تغيراته وهو ما ثبت خطأه أصبح من الواجب تدعيم هذا الخط الدفاعي الثاني وكذلك استدعاء ملف غاب عن ساحة التنفيذ والتفعيل وهو ملف الخسائر والأضرار الذي نجحت مشاورات شرم الشيخ في أن تجعل له كياناً تمويلياً بإنشاء صندوق تخصص موارده لهذا الغرض وشكلت لتفعيله لجنة انتقالية معنية بحوكمته وموارده وآليات عمله ستعرض نتائجها في قمة المناخ المقبلة.
عند التمعن في الإجراءات التفصيلية للعمل المناخي تجد ملف الطاقة واستثماراته جلياً في آليات التخفيف بضرورة الاستثمار في الطاقة الجديدة والمتجددة وتأمين الانتقال العادل وتحقيق أمن الطاقة وكفاءتها وتيسير الحصول عليها، وهذه الأهداف ذاتها هي التي تشكل الهدف السابع من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر وهي من أكثرها تكلفة.
فكيف يمكن الفصل عملاً وتمويلاً بين متطلبات اتفاق باريس في التخفيف، وما تصبو إليه أجندة 2030 للتنمية المستدامة؟ وإذا استعرضت مكونات محاور العمل المناخي في التكيف وجدتها تتناول واحداً من أهم أهداف التنمية وهو الهدف السادس المتعلق بتوفير المياه وإدارتها باستدامة للكافة.
أما باقي محاور التكيف فستجدها على سبيل المثال في الهدف الثاني المعني بتوفير الأمن الغذائي والقضاء على الجوع شديد الارتباط بمكافحة الفقر المدقع وهو الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة.
وملف الأضرار والخسائر متداخل في تعامله مع تغيرات المناخ في نظم المنع بالإنذار المبكر وكفاية الاستعدادات أو التعامل مع آثارها المدمرة على المجتمع ومقومات المعيشة فيه والمرافق والبنية الأساسية، وهي موزعة على أهداف عدة؛ منها الهدف الحادي عشر الذي يسعى لجعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للكافة وآمنة وقادرة على الصمود ومستدامة.
وإذا لم تكف علاقات الارتباط والسببية أيضاً، التي ضربت أمثلة لها، دليلاً على أن العمل المناخي لا بد أن يكون تنموياً بالضرورة فهناك أربعة أمور حاسمة تلزم سياسات العمل المناخي وسياسات التنمية بالاندماج مع بعضها؛ كما ستجد أن المشروع المناخي الناجح والمشروع التنموي الموفق صنوان لا يفترقان.
الأمر الأول هو بعد التمويل بكل مكوناته العامة والخاصة ومصادرها الداخلية والخارجية، والثاني يتمثل في المتطلبات التكنولوجية والدعم الفني وتطوير القدرات، والثالث هو الإطار الرقابي والمؤسسي والسياسات الحاكمة للاستثمارات وكذلك نمط الإنتاج وسلوك الاستهلاك، والرابع هو مفهوم الانتقال العادل ومدى الالتزام بتطبيقه ليس فقط فيما يتعلق بالطاقة ومصادرها وأنواعها ولكن بعملية التحول الأخضر بكاملها وآثارها على النمو والتشغيل والتضخم وتوزيع الدخول والثروات. هذا يستلزم سياسة متكاملة جامعة لا تشتت أهدافها نزاعات بيروقراطية أو التفرق في جزر منعزلة.
وفي هذا تفصيل وأمثلة لحالات متنوعة ناجحة، وأخرى قد أخفقت، وفي كل دروس وعبر نستعرضها في مقالات قادمة نمهد بها ونستشرف أعمال المؤتمر الثامن والعشرين لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، وللقمة التي يرتقبها العالم وتستضيفها دولة الإمارات العربية المتحدة في دبي في شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول المقبلين بمشيئة الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة