إن الاختبار الحقيقي للبشر لا يحدث عندما يكونون ضعفاء ولا يملكون شيئا من عناصر القوة، وإنما عندما يكونون أقوياء ولديهم فائض من القوة
لفت نظري عنوان مدونة الصحفية الأمريكية ومراسلة النيويورك تايمز السابقة في القاهرة، والمعروفة لأسباب شتى في تاريخها الصحفي، والذي كان "معاداة السامية، لا يزال قائما" والمنشورة في ١٢ فبراير الجاري. فالشائع بيننا في العالم العربي أن هناك مغالطات يهودية وإسرائيلية في اعتبار اليهود وحدهم ينتمون إلى العرق السامي، أو لسام ابن النبي نوح رضوان الله عليه، بينما في الحقيقة إذا كانت الأجناس على نقاوتها لا تزال مستمرة بعد مرور آلاف السنين من الاختلاط بين بني الإنسان، فإن العرب وغيرهم من سكان المنطقة العربية ينطبق عليهم هذا الوصف أيضا. وإذا كان اليهود أيضا يشكون من دورات من الاضطهاد والقهر التاريخي باعتبارهم كانوا دوما على جانب الأقلية أو ما يصفونه دائما بمواجهة "الكثرة" أو The Many للقلة The Few؛ فإن العرب والمؤكد الفلسطينيون منهم عانوا من هذه اللعنة وبكثرة أيضا؛ حيث استقلت وأقامت الدولة معظم شعوب الأرض وبقي الشعب الفلسطيني وحده على حاله الذي نعرفه. على أي الأحوال فإن اليهود والإسرائيليين نجحوا بالفعل في إسقاط صفة السامية عن كل من ليس عبرانيا، وفي أحيان كثيرة كان هؤلاء الذين عاشوا في أوروبا وعرفوا موجات للاضطهاد العنيف في إسبانيا وروسيا وكان أكثرها قسوة في معسكرات الاعتقال النازية في ألمانيا والمناطق التي احتلتها خلال الحرب العالمية الثانية.
مقال جوديث ميللر يعود بنا إلى الواقع الحالي مركزا على فرنسا ودول أوروبية أخرى، ولكن الحقيقة ربما تشمل الولايات المتحدة، حيث نشر في العام الماضي أن عدد الاعتداءات على اليهود والمناطق اليهودية من مقابر ومعابد زاد بنسبة ٥٧% عما كان عليه الحال في العام السابق. وسوف يكون منصفا أكثر ليس فقط استنكارا ما يحدث لليهود وإنما البحث عن أسبابه التي يعود بعضها بالتأكيد إلى مثالب الإنسانية في الاعتداء واضطهاد الأقليات من قبل أغلبيات عرقية أو دينية، ولكنه أيضا يعود إلى أن التاريخ اليهودي كان كثيرا ما يدور في حلقات من الصعود حتى قمة السلطة والثروة ثم بعد ذلك السقوط ساعة مواجهة ذلك. ومن الجائز أن اللحظة الراهنة التي تشهد اعتدادا رهيبا بالقوة اليهودية في مواجهة الشعب الفلسطيني، حتى إن "صفقة القرن" صنعها يهود أمريكيون للتحكيم بين يهود إسرائيل والفلسطينيين، جوهرها الانتقاص من النصيب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية التي سبق انكماشها في اتفاقيات أسلو حتى باتت ٢٢% من أرض فلسطين. كان يهود أمريكا -كوتشنر وفريدمان- يتفاوضون مع يهود إسرائيل -نتنياهو وجانتز- على مصير فلسطين والفلسطينيين، أو على حسب التعبير المصري الشائع خلال ثورة ١٩١٩ أن "جورج الخامس" -ملك بريطانيا- كان يفاوض "جورج الخامس"، أو مجموعة من المصريين العملاء.
إن الاختبار الحقيقي للبشر لا يحدث عندما يكونون ضعفاء ولا يملكون شيئا من عناصر القوة، وإنما عندما يكونون أقوياء ولديهم فائض من القوة
هل بات الإسرائيليون واليهود إزاء لحظ تاريخية مماثلة من القوة والقدرة التي تخلق أخلاقيات فاشية لا تلقي بأثقالها على اليهود وحدهم، وإنما على العرب والفلسطينيين وكل المستضعفين في الأرض. جوديث ميللر تعتمد على تقرير أجراه ريمون دبليو كيلي المفوض السابق في شرطة نيويورك، لصالح رونالد إس.لودر سفير الولايات المتحدة السابق في النمسا. تبرع لودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، للجهود المبذولة لمكافحة معاداة السامية في أوروبا والولايات المتحدة. وطلب من كيلي، مفوض الشرطة الأطول مدة في نيويورك، تقييم نمو معاداة السامية التي تجتاح أوروبا واقتراح طرق عملية لتعزيز أمن المجتمعات والمؤسسات اليهودية. التقرير يخلص إلى أن فرنسا هي أخطر مكان أن تكون يهوديا في أوروبا اليوم؛ حيث يوجد 450 ألف يهودي، ثالث أكبر مجتمع في العالم بعد إسرائيل والولايات المتحدة. ارتفعت الهجمات والتهديدات ضد اليهود الفرنسيين 74% من 2017 حتى 2018، ووجد التقرير، والبيانات الأولية للنصف الأول من عام 2019، تشير إلى "تكثيف إضافي"، مع زيادة أخرى بنسبة 75% العام الماضي. ويلقي التقرير اللوم على الحكومة الفرنسية التي لا توفر موجودا رادعا للشرطة، ولا تنفذ القوانين الفرنسية التي تحظر خطاب الكراهية، تختبئ باريس وراء "خدمتها الشديدة للعلمانية الفرنسية".
يعزو التقرير اتساع وعمق معاداة السامية الفرنسية إلى التاريخ والأداء الاقتصادي الضعيف، والديموغرافيا، وثلاثة مصادر أساسية: أولا "الضغوط الطويلة الأمد من اليمين"، والتي على الرغم من صمتها تستمر في أحزاب سياسية مثل تجمع مارين لوبان الوطني. التهديد الثاني يأتي من اليسار "الطبقة الفكرية/الجامعة، التي توجه وجهات نظرها المعادية لإسرائيل والمؤيدة للفلسطينيين على اليهود الفرنسيين عبر الاحتجاجات والنبذ الاجتماعي حتى لليهود المحترفين". في غضون ذلك طورت الاحتجاجات الصفراء، والتي بدأت في أواخر عام 2018 للاحتجاج على سياسات الرئيس ماكرون، لهجة معادية لليهود، كما يؤكد التقرير. على الرغم من أن المتظاهرين استهدفوا في البداية النخب الفرنسية، الذين يلقون باللوم عليهم في ويلاتهم، إلا أن الحركة تضمنت أيضا نوبات تاريخية حول "اليهود والثروة اليهودية والسلطة المالية والسياسية اليهودية".
ومع ذلك، يشدد التقرير على أن "أكبر تهديد وحيد للعنف" ضد اليهود الفرنسيين ينبع من التطرف بين أجزاء من السكان المسلمين الفرنسيين المتزايدين. بدأت أحدث موجة معادية للسامية في أوائل التسعينيات، عندما أصبح "أطفال مسلمي شمال أفريقيا الذين دخلوا فرنسا بعد استقلال الجزائر". إن معاداة السامية بين المسلمين تغذيها المظالم المحلية، خاصة معدل النمو الاقتصادي البالغ 1.3% المتوقع لعام 2019 و1.6% لعام 2020. ولا يمكن لهذا النمو الهزيل "استيعاب مجموعة الشباب المسلم الأكثر عرضة للتطرف"، لا سيما مع البطالة. معدل نحو 25% في الضواحي الفرنسية. اشتدت معاداة السامية بسبب فشل فرنسا في استيعاب المسلمين و"وسائل الإعلام الاجتماعية المعادية للسامية والتلفزيونات الفضائية من العالم العربي". إن الهجمات المعادية للسامية والمضايقات اللفظية تظهر بشكل خاص في المناطق التي يعيش فيها العرب من الطبقة العاملة جنبا إلى جنب مع نظرائهم اليهود. ويصنف تقرير كيلي هؤلاء السكان اليهود على أنهم "معرضون للخطر"، ويقدر عددهم بنحو 150000، أو ثلث السكان اليهود في فرنسا.
ردا على ذلك، بدأ اليهود الفرنسيون بالهجرة، إما إلى إسرائيل أو إلى المدن والأحياء الفرنسية الأكثر أمانا. وعلى الرغم من أن التقرير لا يحث اليهود على الهجرة، فإنه يشير إلى مستقبل قاتم بالنسبة لأولئك الذين يبقون، بالنظر إلى النمو السكاني المتوقع بين المسلمين الفرنسيين. يبلغ عدد السكان المسلمين الفرنسيين الآن نحو 6 ملايين نسمة، وتشير دراسة حديثة إلى زيادة بنسبة 50% في أعدادهم بحلول عام 2050، حتى مع عدم وجود هجرة إضافية. يوصي التقرير بأكثر من عشر خطوات يمكن للحكومة واليهود الفرنسيين اتخاذها للحد من التهديد والحفاظ على أمن المعابد والمدارس والأشخاص اليهود. وللعجب فإنه لا التقرير ولا مقال جوديث ميللر يحث اليهود على فعل شيء للتقليل من حجم الكراهية المتولدة ضدهم، فلم يعد كافيا ما يقومون به من تبرعات للأقل حظا أو للمؤسسات التعليمية أو للفنون والآداب، أو حتى للأحزاب السياسية، وبات ضروريا أن يعيدوا النظر في مواقفهم المضادة والكارهة من القضية الفلسطينية والإسلام والمسلمين في العالم. إن الاختبار الحقيقي للبشر لا يحدث عندما يكونون ضعفاء ولا يملكون شيئا من عناصر القوة وإنما عندما يكونون أقوياء ولديهم فائض من القوة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة