زمن المليشيات في طريقه إلى النهاية، لأن الحراك الشعبي والطلابي أدرك بوعي أن المحاصصة الطائفية لا تؤدي إلا إلى انتهاء دولة هشة ضعيفة
تخترع المليشيات في كل يوم سلاحاً جديداً للفتك بالمتظاهرين السلميين العراقيين، آخرها استخدام بنادق الصيد "الكساريات" التي تطلق حزمة رصاصات صغيرة بطريقة انتشارية أو "طشارية" على حد تعبير العراقيين. آخر الإصابات عمى متظاهرين شباب وإصاباتهم في العيون. هكذا أصبح الإنسان العراقي لا قيمة له نتيجة الحروب العبثية المتلاحقة، واغتيال أكثر من ألف متظاهر وجرح الآلاف، ولم يحرّك ضمير الطبقة السياسية ولا إصرارها على الخطأ، بل وصلت الوحشية والبربرية إلى درجة أنهم أصدروا أوامر إلى المستشفيات بعدم استقبال جرحى المظاهرات السلمية.
ولحد الآن، لم يجتمع البرلمان لإدانة وحشية القتل العمد، لكنه سارع إلى عقد جلسة إثر تصفية قاسم سليماني قائد فيلق القدس، إذ قامت الدنيا ولم تقعد، وتداعى السياسيون من أجل تقديم العزاء والولاء وفروض الطاعة دون أن يرّف لهم جفن أثناء قتل أبناء جلدتهم من الشباب المتظاهر سلمياً من أجل أبسط حقوقه في العيش الكريم. ومن أجل تكريس الفساد، طوال أكثر من عقد ونصف، تعاون هؤلاء الساسة مع القوى الأجنبية، وقاموا بعسكرة المجتمع العراقي، وزّج شبابه في المليشيات، بدلاً من تعليمهم وزجهم في التنمية والتطوير وبناء الوطن، متذرعين في الدفاع عن مبدأ "المكونات" الذي جاء بها الاحتلال الأمريكي كموضة للديمقراطية المبتكرة.
زمن المليشيات في طريقه إلى النهاية؛ لأن الحراك الشعبي والطلابي أدرك بوعي أن المحاصصة الطائفية لا تؤدي إلا إلى انتهاء دولة هشّة، ضعيفة، وفاشلة من الطراز الأول
وفي هذه الأجواء، وجدت إيران فرصتها عن تنمية أذرعها هنا وهناك من أجل زعزعة استقرار المنطقة، بوهم التوسع الإمبراطوري اللاهوتي، وهي لا تتصرف كبلد طبيعي، ولا تكتفي بأراضيها بل في حاجة إلى التمدد على أراضٍ أخرى. ولم يكن عن طريق الصدفة أن زاد نفوذها بعد دخول الاحتلال الأمريكي، فوجدت الدعم من وكلائها المذهبيين، وسارعت إلى إنشاء المليشيات الطائفية وجمعها تحت رايتها، جاعلة من العراق بوابتها إلى البلدان العربية الأخرى: لبنان، سوريا واليمن. كما وجدت فيه خلفيتها المساندة لتصريف بضائعها وتدمير الصناعة والزراعة في العراق، من أجل التهرّب من العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. وأكثر من ذلك حولت العراق إلى ساحة قتال لها مع خصومها، دون أي اعتبار لسيادة هذا البلد المغلوب على أمره. ولم تتوقف أحلامها الإمبراطورية في تكوين الهلال الشيعي لتطلق سموم أيديولجيتها الدينية والمذهبية والطائفية الغريبة على العالم العربي. وكان داعش الرئة التي تنفست منها إيران لكي تبرر وجودها في الوقت الذي ضحى العراقيون من أجل دحرها، فيما استولت إيران على ألقاب النصر وأوسمة الشجاعة بغير وجه حق.
إن التوتر الحالي مع الولايات المتحدة يدفع العراق ثمنه باهظاً، بل يعود به إلى المربع الأول، ومن نتائج ذلك حكومة هشة وضعيفة غير قادرة على تشكيل كابينة وزارية لا تحتوي على أعضاء من المليشيات. فقد استنفرت جميع الأحزاب عندما أعلنت في الخفاء أو العلن عن اختيار أعضاء مستقلين، وبدأت تضع العصي في الدواليب من أجل إجهاض أي تغيير قد يطرأ على نظام المحاصصة الطائفية أو تتعارض مع الرغبة الإيرانية في جعل المليشيات الموالية لها تمتع بسلطات تنفيذية واسعة، مما دفع الولايات المتحدة إلى الضغط على الحكومة العراقية لتحجيم هذه المليشيات وقوتها العسكرية وإخضاعها لسلطة الدولة ولكن دون جدوى. ولا تمانع إيران من زج هذه المليشيات في الحرب ضد أمريكا كما حصل في الهجوم على السفارة الأمريكية وإحراق جزء من أسوارها مؤخراً. وتبلورت استراتيجية واشنطن الجديدة في ضرب النفوذ الإيراني في المنطقة، وتخليص العراق من المليشيات التي طغت على نفوذ الحكومة وأفقدتها هيبتها. وتحت أنظار الحكومة تقوم المليشيات بخطف وقتل عشرات المتظاهرين والمفكرين والسياسيين. وتتمسك هذه المليشيات بالجيش الشعبي الذي انتهت صلاحيته بانتهاء داعش، ولكنه يستمر بدعم من المرجعية الدينية التي دعت إلى تأسيسه، ليس من أجل قتال داعش بل من أجل حماية الطبقة السياسية والحصول على المغانم والمصالح والنفوذ والمال.
في ظل الظروف الحالية، وتصاعد الحراك الشعبي، لا تفكر الطبقة السياسية بتغيير أفقها والانتقال إلى مراحل أخرى، بل تستعين بالمليشيات التي لا يمكن أن تعيش بدون سلطتها فوق القانون. والحراك الشعبي هو الضحية الأولى؛ لأن المليشيات والقوى الخارجية المساندة لها قد تنجح في خلط الأوراق، بحجة الصراع ضد أمريكا، وبالتالي الضغط على المتظاهرين السلميين.
وفي خضم ما يدور الآن من ترتيبات لتشكيل الحكومة الجديدة، التي لم يوافق عليها الشارع العراقي، وأدت ضغوط المظاهرات السلمية رئيس الوزراء الحالي محمد توفيق علاوي إلى انتهاج طريق آخر، وهو اختيار شخصيات مستقلة وكوادر تقنية وعدم اختيار وزراء من الأحزاب المهيمنة، وهذا ما كان مستحيلاً فيما سبق، وهذه إشارة إلى أن زمن المليشيات في طريقه إلى النهاية؛ لأن الحراك الشعبي والطلابي أدرك بوعي أن المحاصصة الطائفية لا تؤدي إلا إلى انتهاء دولة هشّة، ضعيفة، وفاشلة من الطراز الأول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة