ستظل السعودية ولاعتبارات تتعلق بمركزها السياسي العربي والإسلامي تحتل دورا كبيرا ومتميزا في النظام الإقليمي العربي
تلقيت دعوة كريمة من سمو وزير الحرس الوطني السعودي للمشاركة في المهرجان الوطني للتراث والثقافة الجنادرية، والمنعقد حاليا بالسعودية في نسخته الـ33 تحت شعار وفاء وولاء، إلا أنه ولظروف وارتباطات قهرية مسبقة تقتضي وجودي داخل الوطن اعتذرت عن الدعوة الكريمة، وعدم المشاركة في مهرجان هذا العام، الذي يمتد لمدة ثلاثة أسابيع، ويشهد إنشاء ثلاث بوابات جديدة، ويطلق أجنحة جديدة تشمل الجوف وتبوك، والواقع أن استمرار انعقاد المهرجان يشكل تاريخ وطن متجذر بالأصالة، ومتأهب للمستقبل الزاهر، كما ستظل الجنادرية منبرا ثقافيا لتوصيل رسائل للعالم بما يضمه من إقامة ورش عمل، وملتقى ندوات متعددة.
سألت أحد الأكاديميين الأمريكيين المعنيين بشؤون الخليج: ماذا تتوقعون من دول الخليج العربي في السنوات الـ10 المقبلة؟ وكانت إجابته أن الخليج يتغير بسرعة وحركة الأحداث كبيرة وسريعة، وأن التخوف الأمريكي قائم من انفتاح الخليج علي بناء تحالفات سياسية جديدة
أولا: ستظل السعودية ولاعتبارات تتعلق بمركزها السياسي العربي والاسلامي تحتل دوراً كبيراً ومتميزاً في النظام الإقليمي العربي، خاصة أن النظر إلى التطورات السياسية الراهنة يتطلب دوراً ربما سيكون مختلفاً في الفترة المقبلة ارتكاناً لما ستمثله السعودية في تحولاتها الاجتماعية والاقتصادية من تداعيات مهمة يجب التوقف أمامها، خاصة مع ما تتعرض له السعودية من تحديات حقيقية، وتربص دولي متعدد التوجهات، وهو ما يجب أن يلفت القادة السعوديين في الفترة الراهنة، وتطلب الاتجاه لتنويع التحالفات وتطوير الرؤى والاتجاهات، بل أيضاً الشراكات السياسية والاستراتيجية التي باتت تعلن عن نفسها مؤخراً، وتؤكد أن السعودية ستنطلق لمرحلة أكثر حضوراً وتأثيراً، خاصة أن الأمير محمد بن سلمان بات رمزاً للتغيير المرحلي المنشود داخلياً، وهو ما سيتجاوز بالفعل أية تغييرات تشهدها السعودية في السنوات الأخيرة ودفعت بها لواجهة الأحداث الإقليمية والدولية، خاصة مع التوقع أن مركز الحركة العربية سيكون انطلاقاً من دول الخليج العربي؛ السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في القلب منه، والواقع أن التغيير وفقاً لاعتبارات ومعايير البيئة السعودية هو الذي سيتطلب مراجعة حقيقية للسياسات الراهنة للسعودية وسائر دول الخليج العربي، التي باتت تملك مقدرات ومقومات حقيقية للانطلاق، وتحقيق تطورات اقتصادية واستثمارية كبيرة تتجاوز ما هو جار في ظل تغير وتبدل خريطة مراكز التأثير والفعالية، التي تعبر عنها السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة خير تعبير.
ثانيا: إن استمرار انعقاد مهرجان الجنادرية طوال هذه السنوات يؤكد حرص الأشقاء في السعودية على التمسك بالماضي والانطلاق للمستقبل الواعد، خاصة مع الحرص اللافت من قبل القادة السعوديين من أجل دعم ونقل الثقافة عبر الصورة والإعلام والثقافة والتراث للعالم دون حدود مع التركيز على تحقيق رؤية 2030، وما تم إنجازه من خلالها من إيجابيات حقيقية بدأ المواطن العربي يتابع تفاصيلها باهتمام، خاصة مع تسارع معدلات الإنجاز التي يقر بها الجميع، وقد تابعنا ما قام به ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بدور واضح وبارز في تسويق السياسات الراهنة والعمل على تنفيذها رغم كل المعوقات.
وقد تابعت على سبيل المثال مهرجان فورمولا مؤخراً، وما قدمه من حقائق جديدة تشير إلى ما يجري في السعودية من إنجازات، فالواقع الحالي يشير إلى توجهات حقيقية وجهد يجري من أجل نقل صورة مختلفة عما يتردد في بعض وسائل الإعلام الغربي، وأغلبها ينقل صورة غير صحيحة للتطورات السياسية والاجتماعية الجارية في الخليج العربي، وتحتاج إلى جهد كبير في المتابعة وإعادة النظر في الكثير من المعطيات السابقة.
ثالثا: إن حجم المتغيرات التي تشهدها دول الخليج العربي في مجال تطوير نظم التعليم والثقافة والاهتمام بمجال البحث العلمي يبدو مبهراً، خاصة مع ترسيخ دور فروع الجامعات الدولية في العالم في دول الخليج، والتي باتت جاذبة للعناصر والكوادر العربية الساعية بالتأكيد لإحداث نقلة نوعية وطفرات حقيقية في إعداد المواطن العربي.
وقد تابعت بإعجاب كبير مخرجات العملية التعليمية، خاصة في مجال التعليم العالي والدراسات المجتمعية في دولة الإمارات العربية، والتي لا تقل عن مثيلتها في العالم الخارجي، وهو ما يؤكد قدرة واستطاعة بعض الدول العربية قطع مشوار العلم وتطويعه للمعطيات العربية الحاكمة، وهو ما يشهد به القاصي والداني من الأكاديميين العرب ويعتبرونه المقدمة الطبيعية والحقيقية لتطور المجتمعات الخليجية نحو نهضة حقيقية، قوامها إعداد مواطن مسلح بخبرات تعليمية حقيقية تستطيع من خلالها مجابهة أية تحديات واردة من الخارج، وهو ما تعمل دول الخليج على التصدي له والتركيز على الخصوصية العربية بالأساس، مع العمل وفق حسابات وتقييمات ثقافية معينة حرصت دول الخليج على الانطلاق منها.. بل التركيز عليها.
رابعا: إن النظرة للمستقبل في الخليج العربي تتطلب إعادة التأكيد على استشراف المستقبل والتفاعل مع تطوراته، وهو ما آمنت به دولة الإمارات العربية المتحدة منذ سنوات، فسنت رؤية لصنع المستقبل، كما عملت على وضع استراتيجيات جادة في التعليم والثقافة، ولعل إعلان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ خليفة بن زايد عام 2019 عاما للتسامح لترسيخ دولة الإمارات العربية المتحدة عاصمة عالمية للتسامح باعتبارها عملاً مؤسسياً مستداماً من خلال مجموعة من التشريعات والسياسات الهادفة إلى تعميق قيم الحوار وتقبل الآخر والانفتاح على الثقافات، خاصة لدى الأجيال الجديدة، ولا شك أن عام التسامح هو امتداد لعام زايد باعتباره قيمة أساسية في بناء المجتمعات واستقرار الدول وسعادة الشعوب، ولا شك أن هذا الأمر يؤكد ترسيخ مكانة دولة الإمارات كعاصمة دولية للتسامح من خلال مجموعة من المبادرات المجتمعية والثقافية مع طرح تشريعات وسياسات لتحديد قيم التسامح الثقافي والديني والاجتماعي، وتعزيز خطاب التسامح وتقبل الآخر من خلال مبادرات إعلامية، والواقع أن دولة الإمارات باتت تحمل رسالة حقيقية عالمية، ومهمة حضارية في ترسيخ الكثير من القيم على المستويين العربي والدولي، واستكمالاً لما قام به الراحل العظيم الشيخ زايد بن سلطان الذي عمق مكانة دولة الإمارات نموذجاً عالمياً للتسامح والتعاون، والحرص على غرس هذه القيم في كل الأجيال الصاعدة داخل الدولة.
خامسا: سألت أحد الأكاديميين الأمريكيين المعنيين بشؤون الخليج: ماذا تتوقعون من دول الخليج العربي في السنوات الـ10 المقبلة؟ وكانت إجابته أن الخليج يتغير بسرعة وحركة الأحداث كبيرة وسريعة، وأن التخوف الأمريكي قائم من انفتاح الخليج على بناء تحالفات سياسية جديدة قد تدخل قوى مثل روسيا والاتحاد الأوروبي والصين إلى جوار الشريك الأمريكي، وأن العلاقات الأمريكية الخليجية جيدة، ولكن حالة الحراك السياسي الراهن تدفع بالعمل على توطيد أركان التحالف، خاصة أن الداخل الخليجي يتغير بفاعلية، وأن القيادات السياسية الواعدة ستعيد تشكيل أنماط وإطار التحالفات الراهنة، خاصة رؤيتها في بناء شكل جديد للمنطقة العربية انطلاقاً من دول الخليج العربي، وأن التخوفات العربية من تدخلات إقليمية تقوم بها دول مثل إيران وتركيا وإسرائيل يجب أن تفهم في إطار الصراع على الإقليم من الداخل ومن الخارج، وهو الأمر الذي سيمثل إشكالية حقيقية يجب التعامل معها والتكيف مع ظروفها السياسية والاجتماعية، وهو ما تحاول دول مثل السعودية ودولة الإمارات العربية الانطلاق منه والتركيز عليه، مع العمل على قراءة مستفيضة للمتغيرات الراهنة سياسياً واقتصادياً، وتقديم البدائل والخيارات، والحرص على قراءة المستقبل عبر استراتيجيات ممتدة لسنوات طويلة في مختلف المجالات، بل مخاطبة عقول وأفئدة المواطن الخليجي في السعودية ودولة الإمارات العربية، الذي يدرك أن قياداته تعمل لبناء شراكة جديدة في الحكم، وتجاوز علاقة النظم والحكومات التقليدية التي عرفها المواطن الغربي.
سادسا: عودة لأصل الموضوع فإن استمرار انعقاد مهرجانات مثل الجنادرية وغيرها من الاحتفالات الخليجية إنما تربط المواطن العربي بروافد الماضي الكبير، وتؤكد أصالة المنطقة وريادتها، وأشهد وعن حق أن الأجيال الصاعدة في دولة الإمارات والسعودية والكويت ستغير وجه المنطقة لاعتبارات تتعلق بالإعداد الجيد والمتميز، سواء على مستوى الداخل أو من خلال حرص أبناء هذه الدول على التعلم واكتساب المهارات والخبرات المتخصصة، وقد كان لي وما زال تجربة مستمرة منذ سنوات طويلة في الإشراف العلمي في الجامعة وأكاديمية ناصر العسكرية العليا على عدد كبير من الدارسين والباحثين من دولة الإمارات العربية والسعودية والكويت، وأستطيع أن أخلص -وفقاً لما تابعت وقيمت ودرست- بأن مستقبل هذه الدول واعد وزاخر، وهي بلا شك تجربة ثرية ومفيدة لأي أكاديمي عربي يتابع بانبهار صعود الأجيال الراهنة في الخليج في مختلف المجالات، خاصة في مجالات السياسة والثقافة والاقتصاد وغيرها من المجالات الأخرى، والواقع أن النقلة الراهنة خليجياً كان وراءها قيادات آمنت بضروريات العمل من أجل رفاهية شعوبها، وتوفير متطلبات التقدم والتعلم من أجل أن تتقدم وأن تتولى قيادة بلادها وتضعه على الخريطة الإقليمية والدولية.
سيظل الخليج -ولاعتبارات سياسية وديموجرافية وجيواستراتيجية- حاضراً بدوله في أية تطورات عربية عربية في الفترة المقبلة، وستظل فرص إعادة بناء النظام الإقليمي العربي على أصول ومبادئ جديدة تنطلق من دول مثل السعودية ودولة الإمارات العربية ومصر بالأساس، على اعتبار أن هذه الدول تشهد نقلة نوعية حقيقية وحجماً كبيراً من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية، والتي لا شك ستغير وجه إقليم ما زال مضطرباً ويعاني حالة من التشتت والتشرذم، وما زال مستهدفاً من الخارج، الأمر الذي سيتطلب تماسك وتوحد هذه الدول الثلاث بالأساس، والعمل على تطوير وتنمية التحالف وإدخاله مرحلة جديدة من الشراكة السياسية والاستراتيجية الكاملة، وهو ما سيوجه رسائل لعديد من الدول الساعية لإبقاء الأوضاع في المنطقة على حالها، بل ممارسة أكبر قدر من الضغوطات الحقيقية للحفاظ على مصالحها الاقتصادية.
تبقى الإشارة إلى أن أي تطور حقيقي في نمط العلاقات العربية الخارجية سيتطلب مراجعة لحسابات المكسب والخسارة لكل طرف، مع تعلية المصالح العربية -وهذا أمر طبيعي- في أية تفاعلات حقيقية مع الخارج، وتبقى الحسابات العربية الخالصة أساساً ومحوراً لكل مسار للحركة داخلياً وخارجياً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة