جدوى بحر الشمال «صفر».. صدمة للباحثين عن بديل قناة السويس (تحليل)

أحيت الضربات التي تتلقاها صناعة الشحن العالمي الجدل حول جدوى طريق بحر الشمال الذي نُظر إليه يوما كبديل محتمل لقناة السويس المصرية.

وقال رامين تولوي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الاقتصادية والتجارية، في تحليل  نشرته مجلة "فورين بوليسي" إنه مع استمرار المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن في إطلاق النار على السفن التجارية في البحر الأحمر، انخفضت حركة المرور هناك بنسبة 60% تقريبًا عن المعتاد. وحتى بالنسبة لتلك السفن الغربية التي تتمتع بالشجاعة الكافية للقيام بالرحلة، فقد ارتفعت تكلفة التأمين لعبور مضيق باب المندب بشكل كبير.

• طفرة استثمارية في منطقة قناة السويس.. مشاريع جديدة للهيدروجين الأخضر

وقالت النرويج، التي تمتلك خامس أكبر أسطول تجاري في العالم وأكبر مجمع للتأمين ضد مخاطر الحرب المتبادلة، إن الأسعار شهدت زيادة 100 مرة منذ بدء هجمات الحوثيين في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى نحو 1% من قيمة كل سفينة وذلك عن كل عبور من خلال البحر الأحمر. 

ووفقا لأودون هالفورسن، مدير قسم الطوارئ للجمعية النرويجية لأصحاب السفن، فإن ارتفاع أسعار طرق العبور في الشرق الأوسط دفع بعض شركات الشحن إلى التفكير في القطب الشمالي كبديل، حيث يبدأ ذوبان الجليد مما يفتح إمكانات جديدة على ما يسمى بطريق بحر الشمال.

بحر الشمال

ويمتد طريق بحر الشمال من بحر بارنتس بالقرب من حدود روسيا مع النرويج وصولاً إلى مضيق بيرينغ بين سيبيريا وألاسكا، وقد نظرت القوى البحرية الكبرى إلى الطريق البحري الشمالي باعتباره اختصارًا محتملًا للسفر البحري بين أوروبا وآسيا لعدة قرون، فهو الطريق الوحيد الذي يربط بين أوروبا وآسيا.

والطريق الذي كان يعرقله المناخ المتجمد الذي لا يرحم والبعد الشديد، يشهد اليوم تغيرا للمناخ في القطب الشمالي بمعدل أسرع أربع مرات من أي مكان آخر على هذا الكوكب. وقد أدت المستويات الهائلة من ذوبان الجليد في المنطقة بسبب ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى تكهنات جامحة حول أن يصبح المسار قابلاً للتطبيق تجاريا في المستقبل القريب.

وبحسب كاتب التحليل، فإن التوجه شمالا يبدو للوهلة الأولى واعدا، حيث يبلغ طول المسار نحو 8000 ميل بين بعض أجزاء أوروبا وآسيا، مقارنة بنحو 13000 ميل لطريق قناة السويس. والقدرة على قطع مسافة 5000 ميل تقريبا من رحلة السفينة تعني أوقات سفر أسرع بكثير، وهي ميزة إضافية كبيرة في عالم البيع بالتجزئة عبر الإنترنت اليوم والتسليم في اليوم التالي.

طموحات لا تزال بعيدة 

لكن هذا الطريق لا تزال توجد به تحديات تستعصي على الحل في المستقبل المنظور، إذ تضافرت الطبيعة الغادرة وتنافس القوى العظمى العالمية في إبقاء جدوى بحر الشمال كممر ملاحي، تقترب من الصفر.

وقال هالفورسن: "إجابة مختصرة، الجدوى صفرية.. فإنه ليس بديلا واقعيا في المستقبل المنظور"، وأشار إلى "مزيج من سياسات القوى العظمى والتضاريس الغادرة".

وأضاف أن السلطات الروسية تسيطر على معظم طريق بحر الشمال -نحو 70% من القطب الشمالي- ويجب على السفن الراغبة في استخدام الطريق الحصول على إذن الروس ودفع رسوم العبور لهم.

فروسيا لا تزال تعتبر المنطقة بمثابة الفناء الخلفي الاستراتيجي لها، مع وجود الأصل الاستراتيجي الرئيسي لها اليوم هناك وهو الأسطول الشمالي في القطب الشمالي.

وأفاد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، مركز أبحاث مقره واشنطن، العام الماضي، أن روسيا لديها ثلاث قواعد رئيسية في المنطقة، و13 مطارا، و10 محطات رادار. وتقع قاعدة الغواصات التابعة للأسطول الشمالي في جادجيفو على بعد نحو 125 ميلاً فقط من الحدود الفنلندية، التي أصبحت الآن منطقة تابعة لحلف شمال الأطلسي.

ونظراً للعلاقات الحالية بين العديد من الدول الغربية وروسيا وسط الحرب الأوكرانية، فإن استخدام المنطقة في الملاحة التجارية يشكل تحدياً واضحاً.

تحديات طبيعية

أما على صعيد العوامل الطبيعية، ففي النرويج، حيث ستضوي الشمس -الممتدة حتى ساعة "منتصف الليل" نظريا- طوال النهار وطوال الليل على مدى الأشهر الثلاثة المقبلة من العام، يشكك المسؤولون والخبراء في أن المسار سيكون قابلاً للتطبيق في أي وقت قريب.

كما أن المياه القريبة من الخط الساحلي الأكثر أمانا للملاحة ضحلة جدا أيضًا، مما يعني أن شركات الشحن ستحتاج إلى خفض حمولتها واستخدام سفن أصغر من سفن الحاويات أو الذهاب إلى البحر حيث يكون الطقس أسوأ بكثير.

كما أن هناك قدرة قليلة جدا على إرسال قوارب البحث والإنقاذ إلى المنطقة. وقال: "إذا تقطعت السبل بسفينة مثل "إيفر جيفن" -سفينة الحاويات التي يبلغ طولها 1300 قدم والتي جنحت وعطلت حركة المرور في قناة السويس لمدة ستة أيام في مارس/آذار عام 2021- هنا، فقد لا تكون هناك طريقة للحصول عليها، في الخارج قد يتم إخراج الطواقم المحظوظة بطائرات الهليكوبتر، أما الطواقم غير المحظوظة فقد تكون طعاما للدب القطبي".

وستحتاج شركات الشحن أيضًا إلى سفن قوية بما يكفي لتحمل الجليد البحري القطبي السميك لعبورها، الأمر الذي من شأنه أن يرفع الأسعار أكثر.

وبمجرد غروب شمس منتصف الليل في أغسطس/آب، سيغمر الدائرة القطبية الشمالية ظلام دامس لمدة 24 ساعة يوميا خلال الأشهر الستة المقبلة.

وحتى مع ذوبان الصفائح الجليدية التي تمثل الآن أكثر من ربع ارتفاع مستوى سطح البحر، قال الخبراء إن الظروف الجليدية في القطب الشمالي كانت أكثر صعوبة في العقد الماضي، وليس أقل.

وأضاف هالفورسن: "نظرًا للمسافات والطقس والظلام والجليد العائم، فإن إمكانية التنبؤ بالتحرك على طول هذا الطريق منخفضة للغاية لدرجة أنها لا تستحق انخفاض عدد الأيام مقارنة بالسويس أو أفريقيا".

طموحات صينية

وفي الوقت الحالي، تقوم الصين بتحركات حذرة ومحسوبة ومحدودة لتوسيع نفوذها في القطب الشمالي. وقال الخبراء إن المشاريع الصينية الوحيدة التي اكتسبت قوة جذب كبيرة في القطب الشمالي حتى الآن هي منصات حفر الغاز في شبه جزيرة يامال في روسيا.

وفي عام 2022، لم تعبر أي سفينة صينية طريق بحر الشمال، حسبما قال هنريك ستالهان هيم، الأستاذ المشارك في معهد IFS الذي يتتبع نشاط الصين في المنطقة. ولدى الصين محطة أبحاث في سفالبارد، الأرخبيل الواقع في أقصى شمال النرويج بالقرب من القطب الشمالي، لكنها كانت هادئة في الغالب على مدى السنوات الأربع الماضية منذ تفشي جائحة كوفيد-19. وقال هيم إنه لم تعبر أي سفينة تابعة للبحرية الصينية الدائرة القطبية الشمالية على الإطلاق.

ولكن حتى بالنسبة للصين، فإن القضية الأكبر تعود إلى الجدوى الاقتصادية. إذ تأتي أغلب صادرات الصين من الأقاليم الجنوبية للبلاد، مثل قوانغدونغ، والتي توفر وصولاً أسهل إلى ممرات الشحن مثل السويس بدلاً من الطرق الشمالية. وبالتالي فإنه بالنسبة للصين فإن «الإبحار ليس أقصر.. لأنه إذا أبحرت من شنغهاي عبر المحيط الهندي، عبر السويس، فسينتهي بك الأمر في تريستا في إيطاليا أو بيرايوس في اليونان، وهذا أقصر من الإبحار في طريق بحر الشمال".

وفي عالم الشحن، الذي يعتمد على ضرورة القدرة على التنبؤ، يمكن أن يؤدي التأخير لمدة يوم أو يومين إلى ارتفاع كبير في التكاليف.

وفي الوقت الحالي، تفاوضت الصين على خصم تأميني كبير لعبور البحر الأحمر لحماية سفنها حتى مع استمرار الحوثيين في استهداف شركات الشحن الغربية.