ارتبطت ظاهرة الاغتيالات السياسية بصراع القوى المتناقضة فكرياً وإيديولوجياً أو المتناحرة سياسياً، وسعْي كل منها للوصول إلى السلطة.
قيل الكثير بحادثة اغتيال الهاشمي ورسائلها السياسية وغير السياسية ومراميها وحتى عوائدها على بعض قوى التطرف والإرهاب؛ ندد المجتمع الدولي بغالبيته بالحادثة، وربط البعض بينها وبين الحراك الداخلي الذي يقوده رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على طريق تحقيق وعده بعدم السماح لأي قوى خارجية بتصفية حساباتها على أرض العراق، وكلها قراءات تصب في سياق محاولة فهم جوهر دوافع الحادثة.
لكن عملية الاغتيال والظروف المحيطة بها؛ التي سبقتها والتي أعقبتها؛ أفصحت عن عدة ملامح جديدة تتبلور بشكل أوضح في المجتمع السياسي العراقي تتعلق بظاهرة استخدام العنف والتصفية الجسدية بحق شخصيات خارج إطار السلطة أو الحكم أو التيارات الحزبية والسياسية في البلاد بدءاً من النشطاء في الحراك الشعبي العراقي وصولاً إلى حادثة الهاشمي التي شكلت أحدث إشارة دالة على وجود قوى تعتمد فلسفة الاغتيال ضد الخصوم على اختلاف مواقفهم ومشاربهم وبصرف النظر عن خلفياتهم ومواقعهم .
اغتيال الباحث العراقي هشام الهاشمي سلط الضوء بشكل أوسع على زاوية من زوايا الواقع العراقي الراهن وما ينطوي عليه من مكامن خطر، سواء على بنية الدولة التي تصارع في جميع الاتجاهات داخلياً وخارجياً لإعادة بناء كيانها على أسس جديدة، أو على مؤسساتها الرسمية وهي تجهد لترسيخ وجودها، وحتى على وحدته المجتمعية التي تظهر ياوم بعد آخر أنها الضحية الأكثر تأثراً في ظل تعدد القوى الداخلية وتباين مواقفها وتنوع ولاءاتها الخارجية .
ارتبطت ظاهرة الاغتيالات السياسية عموماً بصراع القوى المتناقضة فكرياً وإيديولوجياً أو المتناحرة سياسياً، وسعْي كل منها للوصول إلى السلطة، لكنها تمر أحيانا في فترات سبات ناتجة عن حالة استقرار سياسي واجتماعي، أو غياب البواعث والدوافع التي تؤجج مثل هذه النزعة لدى طرف من الأطراف.
الظاهرة قديمة قدم الوجود وبالتالي مستمرة إلى مالا نهاية، وهي تستمد حضورها في المجتمعات من وجود السلطة ونقيضها، لكن ذلك لا يعني مطلقاً تبرير استخدام العنف والقتل كأسلوب من أساليب العمل والصراع السياسي ضد الخصوم أيّاً كان الدافع والهدف من ورائه .
يمكن للمرء فهمُ وتفهّم صراعات القوى والتيارات والأحزاب المتنافسة على السلطة في أي دولة كانت كديناميكية محكومة بقواعد عمل وضوابط سلوك وحدود وأطر قانونية حين تكون السلطة مُحْتَكَرة بيد الدولة وتكون السيادة للدولة على البلاد والعباد.
لكن حين تتضخم بعض القوى، عدة وعددا، وتجاهر بعضها بولاءاتها الخارجية على حساب انتماءاتها الوطنية، وتشهر سلاحها بوجه بعض شرائح المجتمع وأحيانا ضد الدولة ولا تتمكن الأخيرة من ردعها وترويضها ودمجها في سياقات العمل الوطني؛ عندها تتحول تلك التيارات إلى قوى منفلتة وتعمل بوحي مصالحها الفئوية وحسب، وتسعى لفرض إرادتها على خصومها انطلاقا من مصالحها المشتركة مع داعمها الخارجي الذي يجد مأربه فيها كذراع وأداة لتحقيق أهدافه، بينما تسلك تلك القوى طريقا لإثبات وجودها وترسيخه من خلال عاملين؛ الأول التكاتف الذاتي والالتفاف حول فكرة العمل الجماعي مع بعضها، أي وحدة الموضوع ووحدة الهدف، إذ تنتقل بهذه الطريقة إلى تشكيل نواة لمجموعة مسلحة وظيفتها القمع الجمعي للأفراد وللمجتمع، والتصدي لأي مظهر من مظاهر التعبير أو الرأي النقيض لمعتقدها أو إيديولوجيتها العنفية القائمة على إلغاء الآخر، بحيث تصبح مسكونة بهاجس العداوة لأي مجموعة أو فرد، سواء كان يمثل قوى أخرى أو يتبنى أفكاراً ومعتقدات بشكل شخصي بعيدا عن الانتماء لأي تيار أو جهة حزبية، وتنسج على هذا المنوال تبريرات لسلوكها العنفي القمعي، والعامل الثاني استعدادها للانخراط في أي مواجهة مع أي طرف آخر سعياً لتوسيع دائرة هيمنتها من خلال عمليات البطش والتنكيل وفرض رغائبها وفلسفتها العنفية سبيلاً لانتزاع مزيد من المكاسب السياسية والميدانية لها و للجهة التي تدور في فلكها، بعد أن تصبح العلاقة بينهما متداخلةً والمصالح متشابكةً والمصير واحداً كوحدة أهدافهما .
لقد فرضت حادثة اغتيال الهاشمي تحدياً متعدد الوجوه أمام مصطفى الكاظمي وحكومته، وأصبحت هيبة الدولة العراقية التي ينشدها الرجل على المحك، بموازاة ذلك برهنت عملية الاغتيال على أهمية ترتيب البيت العراقي الداخلي، وعلى ضرورة استثمار المواقف المنددة بالجريمة، الداخلية والخارجية، وتوظيفها لوضع الجميع تحت سقف الدولة وقوانينها ونظمها وإنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة كأولوية الأولويات والتي من شأن تحقيقها إفساحُ المجال أمام تنفيذ كثير من الخطوات باتجاه عراق جديد متحرر من ربقة التبعية والعبث الخارجي بأمنه واستقراره وسيادته، وحينها فقط تتهاوى معادلة الفوضى التي فرضتها قوى القمع المجتمعي الخارجة على القانون، وتؤول السيادة لمصلحة السلطة الشرعية للدولة وقوانينها .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة