لبنان يعاني من الآثار الجانبية للعقوبات الأمريكية على حزب الله، قيادات وأفرادا وقد تضرّر قطاعه المصرفي كلّه
ثمة معضلة لا أحد في لبنان قادر على مقاربتها بطريقة دقيقة: أيّهما جاء أوّلاً: بيضة الأزمة المالية؟ أم دجاجة الأزمة السياسية؟
يعاني لبنان من أزمة نقدية ومالية. صحيح. الخبراء الماليون يقولون إنّ أموال المودعين مقيّدة في المصارف، لأنّ الدولة استدانت أجزاء كبيرة منها، واستخدمتها لتمويل عجزها وهدرها وسوء إدارتها. صحيح أيضاً. لكن هل سمعنا يوماً بدولة تتعرّض للإفلاس وهي على بعد خطوات من أن تصير منتجة للنفط والغاز؟
لبنان يحتاج إلى إصلاحات، لكن إذا سألنا أيّهما جاء أوّلاً: "بيضة الأزمة المالية؟ أم دجاجة الأزمة السياسية؟"، فإنّ الترتيب ليس مهمّاً، ما دام الجواب واضحا: لا حلّ مالياً في لبنان قبل تحديد المسار السياسي: إمّا مع الشرعية العربية والشرعية الدولية، وإمّا فاذهبوا إلى لاريجاني ليعطيكم الحلّ
لطالما كانت عشرات الدول، ومن بينها لبنان، تعاني من عجز وتستدين.
لنأخذ دولاً قريبة كأمثلة. الأردن الذي كان على حافة أزمة اقتصادية ومالية خلال السنوات الماضية، حصل على 1.3 مليار دولار من صندوق النقد الدولي قبل أسبوعين، وكان في 2018 قد حصل على حزمة مساعدات خليجية قدّرت بـ2.5 مليار دولار، بعد 5 مليارات سابقة في 2012.
مملكة البحرين أيضاً كانت على شفير الإفلاس، وحصلت على مساعدات بقيمة 10 مليارات دولار من السعودية والكويت والإمارات، بدء دفعها في 2019 وينتهي في 2023.
الدول نفسها قدّمت إلى مصر 12 مليار دولار قبل 5 سنوات. ثم حصّلت مصر من صندوق النقد الدولي 12 مليار دولار بين عامي 2016 و2019، ما أسهم في استعادة اقتصادها العافية المطلوبة.
الأمثلة الثلاثة السابقة حاضرة وواضحة، وصنعت قصص نجاح في الخروج من الأزمات المالية، بالدبلوماسية العربية، والدولية، أوّلا، وبالإصلاحات الداخلية ثانياً.
فلماذا يتخبّط اللبنانيون إذن من دون قدرة على فهم واضح لمسار الحلول المفترضة؟
ولماذا لا يخطر على بال العرب والغرب أن يحصل لبنان على رزم مشابهة من المساعدات المالية، بالتزامن مع الإصلاحات الإدارية الداخلية؟
الجواب بسيط وسهل:
لن يدفع العرب فلساً واحداً، ولا حتّى سنتاً واحداً، طالما أنّ حزب الله يسيطر عليه، ويتمدّد في الدول العربية، ممثّلاً المشروع الإيراني، العدواني والتوسّعي، على حساب أمن الشعوب العربية ومصالحها.
لهذا يرزح لبنان تحت وطأة العتب العربي عليه، بسبب تمدّد حزب الله إلى الباحات الخلفية للدول العربية، ليس بدءا من سوريا، ولا انتهاءً باليمن، على حدود المملكة العربية السعودية.
وبالتالي، فإنّ ما صحّ مع الأردن ومصر والبحرين، لن يصحّ مع لبنان أبداً. باعتبار بلادنا باتت مصنّفة في خانة قريبة من "الخصومة" السياسية. ولا يوجد عاقل يدفع لخصمه مالاً كي يخرجه من أزماته.
بعد تشكيل حكومة برئاسة حسّان دياب، بات واضحاً أنّ حزب الله مستمرّ في إحكام سيطرته على الرئاسات الثلاث؛ ميشال عون رئيساً للجمهورية (حليفه المسيحي)، ونبيه برّي رئيساً لمجلس النواب (حليفه الشيعي)، ودياب صنيعة أكثريته النيابية. وأيضاً بات الحزب يسيطر على الحكومة وقرارها.
لبنان هذا يعاني من الآثار الجانبية للعقوبات الأمريكية على حزب الله، قيادات وأفراداً. وقد تضرّر قطاعه المصرفي كلّه. لبنان هذا عجز نظامه السياسي عن إنتاج قرار مالي "معقول"، وعجز "الحاكمون" فيه عن مصالحة العرب والغرب من خلال فرصة تشكيل الحكومة.
لنتذكّر أنّ أزمة العجز في ميزان المدفوعات قد بدأت بسبب خيار سياسي وليس مالياً؛ هو إسقاط حكومة سعد الحريري الأولى في 2011، تاريخ إعلان حزب الله انخراطه العسكري في القتال ضدّ المصالح العربية في عدد من الدول العربية.
وهو تاريخ تعثّر تدفّق العملة الصعبة إلى لبنان، وتاريخ بدء تراجع السياحة العربية في لبنان، وتراجع الاستثمارات العربية، حتّى توقّفها، وتراجع تحويلات المغتربين، وتوقّف المساعدات العربية كذلك. وكلّها كانت تؤدي إلى فائض في ميزان المدفوعات.
العلاقة مع العرب أنقذتنا مراراً: لا نبدأ من إعادة الإعمار في تسعينيات القرن الماضي، ولا ننتهي بحرب يوليو/تموز 2006 التي، بعد انتهائها، أعاد العرب إعمار ما هدمته إسرائيل خلالها.
العلاقة مع العرب هي التي أمدّتنا بخطوط الحياة والتمويل في كلّ مرّة. أما اليوم فيدفع اللبنانيون من ودائعهم ومصالحهم، ومن صحّتهم وأرزاقهم، ثمن ضرب العلاقة مع المحيط العربي، واستعداء أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتفضيل إيران ومصالحها على مصالح اللبنانيين.
بدت زيارة رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني إلى لبنان صورة مكبّرة عن حالة لبنان، المعزول، والمفلس، والمُحاصَر مالياً ومصرفياً وسياسياً، والذي لا يزوره أحد غير لاريجاني ومن شابهه، ضمن حملته الانتخابية في إيران. فقد جاء ليحاضر في القوّة ويعد بالدعم، ويعرض "مساعدات" على لبنان. هو الآتي من دولة نصف سكّانها تحت خطّ الفقر، والنصف الآخر يعاني ظروفا اقتصادية شديدة الصعوبة.
بالطبع لبنان يحتاج إلى إصلاحات، لكن إذا سألنا أيّهما جاء أوّلاً: "بيضة الأزمة المالية؟ أم دجاجة الأزمة السياسية؟"، فإنّ الترتيب ليس مهمّاً، ما دام الجواب واضحا: لا حلّ مالياً في لبنان قبل تحديد المسار السياسي: إمّا مع الشرعية العربية والشرعية الدولية، وإمّا فاذهبوا إلى لاريجاني ليعطيكم الحلّ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة