إخفاق المناشدات التي أطلقها وتناوب على إطلاقها أركان الحكم لحث الإيرانيين على المشاركة والتصويت في الانتخابات كانت انتكاسة استباقية
مقاطعة نسبة كبيرة من الإيرانيين لعملية الاقتراع لانتخابات البرلمان الإيراني أفصحت عن حقيقة الهوة التي تفصل بين نظام الحكم والشعب الإيراني، إنها القطيعة الشعبية مع نظام الحكم بجميع مرتكزاته ومحدداته وتجلياته، فالإحجام عن التصويت بنسبة فاجأت السلطات الإيرانية هو تصويت بحد ذاته ضد هيكلية الحكم ونهجه وسياساته الداخلية والخارجية في إطارها العام من جانب، وضد ما اعتبره كثير من الإيرانيين مسرحية هزلية أعدتها وأخرجتها دوائر السلطة وأطلقت عليها تسمية الانتخابات البرلمانية من جانب آخر.
لن تكون نتائج الانتخابات البرلمانية هذه غريبة عن الواقع الإيراني المتشكل حالياً على يد نظام الحكم القائم، وهذا يقود إلى الاعتقاد بأن الشروخ الداخلية ستتعمق، والنظام نحو مزيد من العزلة
ربما من الأجدر أن يتوقف المرء عند مسألة المقاطعة الواسعة للانتخابات إذا أراد أن يمحّص واقع النظام الإيراني ومسارات مستقبله على الصعيد الداخلي حصراً بعيداً عن جميع المؤثرات الخارجية التي دأبت طهران على اعتبارها سبباً وحيداً في معاناة الشعب الإيراني ووظفتها للتعمية على فشل إدارتها للبلاد والعباد، ذلك أن نتائج الانتخابات البرلمانية لن تحمل أي جديد أو مفاجأة على الإطلاق، فقوائم المرشحين من لون واحد وقد تم ترتيبها منذ عملية الترشيحات الأولية.
وبدا جلياً استبعاد آلاف المترشحين ممن يوصفون بالمعتدلين من قوائم القبول لخوض الانتخابات، أساساً تفتقد عملية الانتخابات برمتها لأبسط المعايير الناظمة لها؛ فلا وجود لأحزاب متنافسة، ولا وجود لتيارات سياسية أو تجمعات نخبوبة فكرية أو غيرها على الحلبة، ولا برامج انتخابية حتى لمرشحي السلطة خارج ما تريده وترغبه، ولا مجال لمشاركة أي صوت معارض أو حتى غير منسجم مع خط المجموعة القابضة على رأس السلطة وهرمها الأعلى.
انتخابات نمطية من لون واحد ونتيجتها حتمية من حيث مخرجاتها على صعيدين؛ أولهما إضافة أصوات أكثر تشدداً وأكثر ممالأة لنظام الحكم، وثانيهما تعميق الهوة مع المواطن الايراني الذي تم تغييبه وإقصاؤه وعدم الاكتراث بحضوره ومطالبه واحتياجاته.
لطالما تبجح النظام الإيراني بالتفاف غالبية الشعب حوله، لكن مجريات اليوم الانتخابي الذي أصرت السلطات الإيرانية على تمديد ساعاته للالتفاف على حقيقة واقع لا تريد الاعتراف به وهو الرفض الشعبي من قبل غالبية الإيرانيين لهذه السلطة، أفصحت عن وعي الناخب الإيراني بأهمية الاقتراع المضاد من خلال المقاطعة والعزوف عن المساهمة في منح النظام مزيداً من صكوك الاعتماد والقبول، لأن ذلك يعني استمرار تهميشه واستلابه كمواطن من قبل طبقة الحكم، ما دام أن رأيه وموقفه ومطلبه لن يؤخذ بعين الاعتبار ولن يكون له أي تأثير في أقل تقدير.
إخفاق المناشدات التي أطلقها وتناوب على إطلاقها أركان الحكم لحث الإيرانيين على المشاركة والتصويت في الانتخابات كانت انتكاسة استباقية؛ ليس لعملية الاقتراع فحسب بل لمستقبل منظومة الحكم وللبرلمان العتيد، فالناخبون الإيرانيون الذين يشكل الشباب والنساء أغلبيتهم هم الذين يدفعون ثمن السياسات المتهورة التي ينتهجها النظام على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ يعانون من البطالة وعدم توفر فرص العمل وقمع الحريات الشخصية وغياب البرامج والفرص الحكومية المعنية بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
كما يعانون من التهميش في المشاركة السياسية وعدم توفر أبسط حقوقهم بعد أن تم استنزاف مقدرات البلاد على مدى عقود من الزمن في حروب خارجية وتدخلات إقليمية وصناعات عسكرية وبرامج نووية أقل ما يقال فيها إنها أنهكت المواطن الإيراني ودفعته إلى التعبير عن أوجاعه ومعاناته برفض التصويت في هذه الانتخابات، بعد أن تعثر في كثير من انتفاضاته ضد حكامه ونظام حكمهم وسياساتهم بسبب البطش الشديد الذي مورس ضده.
قد لا يكترث أركان الحكم في طهران كثيراً لمقاطعة شريحة واسعة ومؤثرة للانتخابات البرلمانية، لأنهم يعتقدون أن نسبة المقترعين من مريديهم هي الأغلبية التي تحقق لهم الاستمرار في القبض على السلطة وستمنحهم فرصة السيادة المطلقة لفعل ما يشاؤون، لا يفكرون بالمشروعية الوطنية من خلال إرادة مواطنيهم وتنافس جميع القوى السياسية والحزبية.
لن تكون نتائج الانتخابات البرلمانية هذه غريبة عن الواقع الإيراني المتشكل حالياً على يد نظام الحكم القائم، وهذا يقود إلى الاعتقاد بأن الشروخ الداخلية ستتعمق، والنظام نحو مزيد من العزلة على الصعيدين: الداخلي بعد أن تقلصت هوامش مشاركة التيارات السياسية الأخرى وانعدمت، وأدار معظم الإيرانيين ظهورهم لنظام الحكم.. والخارجي بفعل ترجيح الانتخابات الحالية لأصوات المتشددين في نظام الحكم بجناحيه البرلماني والحكومي، ما سيرجح كفة الداعين إلى استمرار نهج الاستفزاز والابتزاز وسياسة المغامرة في كثير من القضايا الإقليمية والدولية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة