هذا الإنجاز لم يكن وليد الصدفة بل جاء نتيجة خطط طويلة الأمد تم البدء بها منذ سنوات طوال
تحرير العلم من الخرافات والمعتقدات الخاطئة التي كانت تعطل مفاصله أمرٌ تخطته منذ زمن ليس ببعيد علوم الطاقة النووية تحديداً، إذ لم يكن من السهل إقناع عقول الجماهير التي تكونت لديها صور نمطية مخيفة حول العصر النووي جراء تعرضها لمواد سمعية وبصرية على مدى طويل عبر السينما والأدب والفنون.
ولعل حادثة هيروشيما وناجازاكي في اليابان حيث أسقطت الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت مادة دسمة لكثير من الأعمال حول القنابل الذرية وخطرها المزعوم على البشرية، حيث أنتجت الأعمال المخوّفة منذ مطلع الخمسينيات كفيلم "غودزيلا" ورواية "الرجل المنكمش".
البرنامج النووي السلمي الإماراتي من أضخم المشاريع الواعدة وهو يوماً تلو الآخر يثبت مدى نجاح الرهان على تجربة جريئة كهذه تجعل الإمارات في مصاف بيوت الخبرة للدول التي ترغب في البدء بمشروع نووي سلمي
ورغم أن معظم الأعمال المؤثرة في الخيال الشعبي كانت من إنتاج ياباني أو أمريكي، فإن بريطانيا أضفت بعداً تفاؤلياً حينما وظفت الطفرة النووية في أفلام وقصص الخيال العلمي بصورتها التي توضح خدمتها وفائدتها للبشرية لتطرح أعمالاً تعالج الإشكالية الأخلاقية لعصر الذرة.
هذه المقدمة الطويلة إنما أريد منها إيصال رسالة واضحة مفادها أن تقدم الدول والأمم إنما هو مربوط بنفض الشوائب الفكرية عن أي خطوة علمية نحو تغيير جذري في أي قطاع، خصوصا إن كان مثيراً للمخاوف التي تصل إلى حد الإبادة البشرية كما يخيل للبعض عند ذكر الطاقة النووية، إلا أن تلك التصورات لم تعد مخيفة كسابق عهدها مع إيمان الدول، ومنها دولة الإمارات بضرورتها للبيئة والاقتصاد والمستقبل المستدام، فجعلت خطة تغيير هذا الفكر واقعاً ملموساً بطرح تخصصات أكاديمية عديدة في مجالات الطاقة وتحفيز أبناء الوطن على دراستها والتخصص فيها.. وهو ما تحقق بالفعل والأرقام المتزايدة دليل على تحسن الوعي في هذا القطاع الحيوي المهام.
واليوم تقف بثقة أمام تجربة تاريخية بكونها أول دولة عربية تنتج الكهرباء من تكنولوجيا الطاقة النووية على أثر الحصول المرتقب على رخصة تشغيل المحطة الأولى من محطات براكة للطاقة النووية السلمية من الهيئة الاتحادية للرقابة النووية، حيث ستبدأ شركة نواة للطاقة التابعة لمؤسسة الإمارات للطاقة النووية والمسؤولة عن تشغيل وصيانة المحطات بتحميل حزم الوقود النووي في المحطة لتبدأ بعد ذلك زيادة مستوى الطاقة في المفاعل بشكل تدريجي مع القيام بعدد من الاختبارات المصاحبة وصولاً إلى التشغيل التجاري الكامل خلال عدة أشهر.
هذا الإنجاز لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة خطط طويلة الأمد تم البدء بها منذ سنوات طوال، وإن رجعنا إلى أقربها قبل عشر سنوات يتأكد لنا عمق رؤية الإمارات وجديتها في برنامجها النووي السلمي وتوظيف الطاقة المستدامة، حينما بدأت الرحلة في إبريل/نيسان 2008 مع إصدار وثيقة "سياسة دولة الإمارات العربية المتحدة المتبعة لتقييم وإمكانية تطوير برنامج للطاقة النووية السلمية في الدولة"، التي ركزت على الشفافية التشغيلية التامة وأعلى معايير حظر الانتشار النووي وترسيخ أعلى معايير السلامة والأمن إلى جانب التنسيق المباشر مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والالتزام بمعاييرها، والأهم عمل شراكات مع حكومات الدول المسؤولة والمؤسسات ذات الخبرة المناسبة وضمان استدامة الطاقة النووية على المدى البعيد.
وبعدها في عام ٢٠٠٩، تمت الخطوة المهمة بتأسيس "الهيئة الاتحادية للرقابة النووية" كجهة رقابية منظمة للقطاع، وتأسيس مؤسسة الإمارات للطاقة النووية للعمل على توفير طاقة نووية آمنة.
وفي العام نفسه، حظيت العاصمة أبوظبي بثقة دول العالم مع اختيارها مقراً مؤقتاً للمنظمة الدولية "آيرينا" التي ترعى التعاون الدولي في الطاقة المتجددة مثل الطاقة الحيوية والحرارية والمائية والشمسية وطاقة الرياح، ليتبعها بعد عامين في 2011 اختيار أبوظبي مقراً دائماً لهذه الوكالة الدولية، وفي ٢٠١٢ بدأت عمليات إنشاء محطة براكة للطاقة النووية، وما زالت تسير بخطى ثابتة.
يستمر التساؤل حول أهمية هذه الخطوات التي تتخذها الإمارات في هذا القطاع تحديداً.. ليكون الرد واضحا ومباشرا نابعا من قناعة القيادة بأن للطاقة النووية دورا مهما في مستقبل دولتنا المتنامية اقتصادياً، فالطاقة النووية للدولة فرصة لتطوير مصدر آمن وفعال وصديق للبيئة للكهرباء، فضلاً عن مساهمتها في استراتيجية تنويع مصادر الطاقة، ما سيضمن مستقبلاً مستداماً للطاقة، فمع التشغيل التام للمحطات الأربع، سيتوفر ما يصل إلى ربع احتياجات الدولة من الطاقة الكهربائية.
إذن البرنامج النووي السلمي الإماراتي من أضخم المشاريع الواعدة، وهو يوماً تلو الآخر يثبت مدى نجاح الرهان على تجربة جريئة كهذه تجعل من الإمارات في مصاف بيوت الخبرة للدول التي ترغب في البدء بمشروع نووي سلمي، وذلك على أيدي ألمع الكفاءات الإماراتية المدربة في مدارس عالمية صقلت خبراتها ومهاراتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة