بين مليحة ومروي.. آثار تكشف عمق الروابط الحضارية بين الإمارات والسودان

لطالما رُبط تاريخ الحضارات القديمة بحركة الشعوب وتبادل السلع والأفكار عبر الطرق البرية والبحرية.
ومن بين هذه الروابط اللافتة، تبرز العلاقة بين دولة الإمارات والسودان، التي تكشفها اليوم المكتشفات الأثرية في كل من مليحة بالشارقة ومروي في شمال السودان.
هذه العلاقات لم تكن سطحية أو عابرة، بل تعود إلى قرون طويلة، اتسمت بالتبادل التجاري والثقافي والرمزي، وهو ما تؤكده الحفريات الحديثة والدراسات المقارنة.
مليحة... شواهد أثرية على تواصل قديم
في منطقة مليحة الواقعة في إمارة الشارقة، توصلت التنقيبات الأثرية إلى مجموعة كبيرة من القطع التي تحمل دلالات واضحة على تواصل حضاري مع وادي النيل.
من أبرز هذه المكتشفات: تماثيل برونزية، أوانٍ فخارية مطلية باللون الأحمر ومزججة بالأخضر، خرز، زجاجيات، إضافة إلى نقوش بخطوط متنوعة شملت المسند الجنوبي، الآرامي، واليوناني.
وتُظهر هذه اللقى الأثرية تشابهًا واضحًا مع مكتشفات وُجدت في مناطق سودانية تاريخية، لاسيما في كرمة ومروي، مما يدعم فرضية وجود تواصل مباشر أو غير مباشر بين الحضارات التي سكنت الإمارات وتلك التي ازدهرت على ضفاف النيل، خاصة في الألفية الأولى قبل الميلاد.
مروي... عاصمة ازدهار حضاري وتواصل عبر البحر
في السودان، تشكّل مدينة مروي مثالًا بارزًا لحضارة نُوبية متقدمة. كانت مروي عاصمة المملكة الكوشية منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى الرابع الميلادي، وتميزت بصناعة الحديد، والهندسة المعمارية التي شملت بناء الأهرامات، والنقوش والنحت، وتطوير كتابة محلية عُرفت بالخط المروي.
وقد أظهرت المكتشفات في مروي وجود أوانٍ فخارية وزجاجيات وخرزات متقاربة في الشكل والتكوين والزخرفة مع تلك التي وُجدت في الإمارات، ما يُشير إلى امتدادٍ ثقافي وتجاري لم يكن محدودًا بالحدود الجغرافية، بل وصل إلى عمق الجزيرة العربية.
شبكة طرق تربط القارتين
تشير الدراسات إلى وجود شبكة معقّدة من المسارات البرية والبحرية كانت تربط بين السودان وشبه الجزيرة العربية. فطريق البحر الأحمر كان يمر بموانئ سودانية مثل سواكن وبورتسودان، وصولًا إلى موانئ اليمن وعُمان والخليج العربي. كما وجدت طرق برية عبر الصحراء الشرقية والنوبية، استُخدمت في نقل مواد ثمينة مثل الذهب والعاج والجلود والبخور، وهي بضائع كانت مطلوبة لدى حضارات كبرى كبلاد فارس والهند والرافدين.
هذه الطرق لم تكن فقط قنوات لتصريف السلع، بل ساهمت أيضًا في نقل العادات والتقاليد والمفاهيم الدينية والرمزية.
تشابه الرموز والعمارة الجنائزية
وثّقت البعثات الأثرية العديد من أوجه التشابه بين الرموز الدينية والزخارف المعمارية في المنطقتين. فقد تبين أن أنماط الزخرفة على الأواني والمجوهرات، وكذلك الطقوس الجنائزية، تشترك في ملامح واضحة بين مليحة ومروي، خصوصًا في طريقة الدفن، واستخدام التلال الجنائزية، والنقوش ذات الرمزية الدينية، مما يشير إلى تلاقٍ روحي وثقافي، إلى جانب التواصل الاقتصادي.
قراءة جديدة في تاريخ المنطقة
تشير هذه الأدلة المتراكمة إلى أن العلاقة بين الإمارات والسودان لم تكن علاقات عابرة أو مقتصرة على التبادل التجاري، بل كانت علاقة تداخل حضاري يتجاوز الجغرافيا ويغوص في بنية المجتمعات القديمة. الإمارات لم تكن معزولة عن محيطها، والسودان لم يكن منغلقًا داخل وادي النيل؛ بل كانا جزءًا من منظومة تفاعل حضاري شمل إفريقيا وآسيا.
هذه النتائج تفتح المجال أمام مزيد من الدراسات الأثرية المقارنة، وتدعو إلى مراجعة أوسع للتاريخ القديم للمنطقة، استنادًا إلى الأدلة المادية التي تُثبت أن الحضارات كانت أكثر اتصالًا وتداخلًا مما يُظن.
aXA6IDEzLjU4LjIzOC42MyA= جزيرة ام اند امز