روسيا في بوركينا فاسو.. هل يكتب الانقلاب شهادة وفاة فرنسا؟
قبل عامين، رفع محتجون في باماكو شعارات مناهضة لفرنسا، وها هو السيناريو يفرض نفسه في بوركينا فاسو التي ارتفع علم روسيا في سماء عاصمتها.
لم يكن ظهور العلم الروسي في واغادوغو مفاجئا، بل شكل منعطفا على خطى الجارة مالي، في مسار بلد شهد لتوه انقلابا عسكريا ويبدو أن حكامه الجدد لا يخفون ميولهم نحو المعسكر الروسي، وعلاقتهم المتوترة بالغرب وخصوصا فرنسا.
رفرف العلم الروسي عاليا أمام ثكنة في العاصمة البوركينية، حين صعد شاب من الموالين لزعيم الانقلاب إبراهيم تراوري، على متن مدرعة عسكرية، وبدأ يلوح بعلم روسي أخرجه من جيبه وبدأ يلوح به.
كان يمكن أن يحتسب المشهد فرديا لا يعبر إلا عن توجهات حامل العلم، لكن صدى الهتافات المؤيدة لروسيا المدوية بالمكان من قبل عشرات الشبان، أكد أن الشراكة مع باريس - القوة الاستعمارية السابقة- باتت على المحك.
المشهد اختزل النفوذ الروسي المتنامي في بوركينا فاسو، والذي حقق قفزة نوعية جعلته يمر من طور المد الإعلامي إلى الشعبي فالسياسي، ليحصل بذلك على موطئ قدم جديد في غرب أفريقيا بعد ليبيا وأفريقيا الوسطى ومالي، وفي البلد الأخير، بدا التأثير الروسي واضحا من خلال طرد القوات الفرنسية وإنهاء التعاون العسكري معها، مقابل عقد شراكات مهمة مع موسكو.
فهل كتب الانقلاب شهادة وفاة الوجود الفرنسي في بوركينا فاسو وغرب أفريقيا عموما؟ أم أن باريس لا تزال تمتلك زمام النفوذ استنادا لاعتبارات تاريخية واقتصادية كثيرة؟
وضوح مدهش
إيفان غيشاوا، الخبير في الشؤون الأفريقية بالجامعة الحرة في بروكسل، يرى في تعقيبه على الموضوع، أن "الانقلابيين يدرجون بشكل صريح للغاية تحركهم في إطار تقسيم يضع روسيا بمواجهة فرنسا".
واعتبر الخبير، في سلسلة تغريدات عبر تويتر، أنه "من المدهش رؤية الانقلابيين يعلنون بهذه السرعة حربهم على شريكهم الاستراتيجي المتميز"، في إشارة لباريس، مضيفا: "كنا نظن على الأقل أنهم سيتولون السلطة أولا قبل اللجوء لأي من هذه المزايدات".
ويقدم غيشاو فرضيتين لما تقدم، فـ"إما أن العمل مع الروس كان المشروع منذ البداية ونحن نتعامل مع خطة مدروسة جيدًا لزعزعة الاستقرار، أو أننا أمام محاولة انتهازية لمواجهة فرنسا وروسيا قصد حشد الدعم لأن المشروع في حالة اضطراب" بالنسبة للانقلابيين.
طرح يظل بانتظار تأييد أو نفي قد تقدمه التطورات بالأيام المقبلة، وإن شكل الهجوم الذي تعرضت له السفارة الفرنسية في واغادوغو السبت الماضي، أكبر إشارة إلى أن باريس قد تواجه نفس السيناريو الذي دفعها لحزم أمتعتها والرحيل من مالي.
لماذا بوركينا فاسو؟
تنامي النفوذ الروسي في أفريقيا لم يكن وليد التطورات في بوركينا فاسو، وإنما توسع في هدوء، بدءا من وسط القارة وتحديدا من أفريقيا الوسطى، البلد الذي يواجه أزمة أمنية وسياسية لم تحط أوزارها منذ اندلاع الصراع الطائفي فيه العام 2013.
أما المحطة التالية فكانت مالي، البلد غير الساحلي أيضا، والغني بالذهب واليورانيوم، قبل أن يتمدد نفوذ موسكو ليصل إلى بوركينا فاسو، وسط استفهامات عما يمكن أن تجنيه من دولة فقيرة وحبيسة.
فالواقع أنه رغم أن بوركينا فاسو لا تمتلك أي إطلالة على المحيطات، إلا أنها تمتلك موقعا استراتيجيا محوريا يمنحها حدودا متاخمة للعديد من دول أفريقيا، كما أن لها مكانتها المحورية -ثقافيا واجتماعيا- وسبق أن تمتعت بنفوذ دبلوماسي معتبر في القارة، وهذا ما يصنع توليفة جذابة وضعتها سابقا على لائحة النفوذ الفرنسي، قبل أن تدخل روسيا على الخط.
"بوركينا- روسيا"
بالنسبة للروس، تعتبر بوركينا فاسو نقطة قوة إضافية في غرب القارة، ومن الواضح أنها كانت على قائمة موسكو منذ زمن بعيد، بهدف إخراجها من حضن فرنسا.
ولذلك دعم الروس انقلابا أوصل بول هنري سانداوغو داميبا إلى الحكم على رأس مجلس عسكري، لكن حين لم ينجح الأمر، يعتقد مراقبون أن هذا الفشل هو ما يفسر اصطفاف موسكو وراء قادة الانقلاب الجديد.
أما السلاح المعتمد في ذلك، فهو بالمقام الأول شبكات التواصل الاجتماعي، وثانيا الاستفادة من التاريخ السياسي لدولة تكبلها سلسلة من الانقلابات منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، وشهدت حقبة من حكم توماس سانكارا (1983 - 1987) المعروف بتبنيه للفكر الشيوعي وعلاقاته القوية بالاتحاد السوفياتي، والذي يمتلك بديهة عددا كبيرا من المؤيدين.
ومن بين المحطات المتقلبة في بوركينا فاسو، وفي ظل سريان موجة الغضب الشعبي من فرنسا، ظهرت حركة تطلق على نفسها "بوركينا - روسيا"، وتضم مثقفين وسياسيين وحقوقيين، تقدم نفسها على أنها معارضة للسياسات الفرنسية وترفع مطالبا من قبيل عقد شراكة جيواستراتيجية مع موسكو.
الحركة سجلت حضورا قويا في خضم الأحداث الأخيرة من خلال تأييد نشطاء فيها للانقلاب، بل وصل الأمر حد رفع علم روسيا أمام الثكنات في واغادوغو، واستهداف لافتة إشهارية تحمل شعار شركة فرنسية في أحد شوارع المدينة.
واللافت أنه قبل أسبوع على الانقلاب، التقى داميبا، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في اجتماع قالت الرئاسة البوركينية لاحقا إنه بحث آليات تعزيز التعاون الثنائي.
وأشارت الرئاسة إلى أن التعاون مع موسكو "يعود لأكثر من خمسين عاما، فيما يسعى الجانبان اليوم لتعزيزه من أجل مواجهة تحديات اللحظة"، في تطلعات لم يمهلها الانقلاب الأخير لتتجسد.
لكن المستجدات قد لا تمنع تحقيق آمال داميبا عبر الحكام الجدد، وسط سيل من المعطيات تشي جميعها بأن موسكو تمضي بخطى حثيثة نحو سحب البساط من تحت أقدام باريس ببوركينا فاسو، في تمش يبدو شبيها حد التطابق مع ما حدث في أفريقيا الوسطى ومالي.
فهل تنجح موسكو لمرة أخرى في زعزعة نفوذ باريس في واحدة من معاقلها التقليدية؟
aXA6IDE4LjIyMC4yMDYuMTQxIA==
جزيرة ام اند امز