تعيش الحكومة البريطانية اليوم ضغوطا شديدة لإعادة النظر في سياساتها الخارجية إزاء الصين.
تريد المعارضة تصنيف بكين كعدو حقيقي للندن، وليس كـ"تحد استراتيجي" يمكن احتواء خطره من خلال التفرقة بين المعاملة السياسية والتجارية معه. و"ما زاد الطين بلة"، أن عددا ليس قليلا من نواب الحزب الحاكم يريدون الأمر ذاته.
ما فجر الأزمة الراهنة في وجه حكومة ريشي سوناك، هو ذلك الباحث العشريني المتهم بالتجسس لبكين، بينما كان يعمل لصالح نواب بريطانيين عن حزب المحافظين الحاكم. اعتقل الشاب مع رجل آخر في العقد الثالث من العمر قبل نحو ستة أشهر، ثم أطلق سراحهما بكفالة، لكن التحقيقات معهما جارية حتى اليوم رغم ادعائهما البراءة.
يعمل ريشي سوناك وفريقه الحكومي بجهد لاحتواء غضب خصوم بكين في مجلس العموم، سواء بين المحافظين أو الأحزاب الأخرى. لكن الأمر لن يمر بسهولة وخاصة بعد أن نشرت صحيفة محلية خبرًا تحذر فيه المخابرات البريطانية للحزب الحاكم في 2021 و2022، من مرشحين محتملين له لانتخابات البرلمان والبلدية، يشتبه بتجسسهم لصالح الصين.
صحيح أن الحزب الحاكم حينها استبعد المشتبه فيهم من قوائم ترشيحاته لأي عمل سياسي، إلا أن فضح التحذير الأمني في هذا الوقت تحديدا، دعم موقف المعارضين للصداقة مع بكين، خاصة وأن الرئيس السابق لجهاز المخابرات الخارجية السير أليكس يونجر، أكد أن التجسس وجمع المعلومات، من أبرز أسلحة الصين لحماية أمنها القومي.
نقل الصين من خانة التهديد إلى العدو، ليس مجرد تغيير في المصطلحات المستخدمة للتعبير عن مستوى العلاقات بين البلدين عبر الإعلام أو البيانات الرسمية. وإنما هو تبدل جذري في سياسة المملكة المتحدة تجاه التنين الآسيوي. لن يصل إلى مستوى شن حرب على بكين، ولكن قد يجر البلدين إلى قطيعة لا تصب في صالح كل منهما.
معاداة الصين، هو تغريد خارج السرب بالنسبة للمملكة المتحدة؛ فلا يوجد بين حلفاء لندن من مضى أو حاول المضي نحو الخطوة، أقلها على المدى القصير. ولا يريد أي من أصدقاء المملكة المتحدة في القارة الأوروبية أو خارجها، أن تبادر حكومة ريشي سوناك إلى مثل هذا الإجراء الذي قد يحرجهم، ويضرب وحدة الصف الغربي.
تداعيات العداوة لن تكون سياسية فقط، ثمة مشاكل اقتصادية كبيرة تنتظر لندن عندما ينقطع حبل الود بينها وبين بكين.؛ فالصين رابع أكبر شريك تجاري للمملكة المتحدة حول العالم، والأول في قارة آسيا. وخسارة مثل هذا الشريك بعد الخروج من السوق الأوروبية الموحدة، ستكون ضربة موجعة لاقتصاد مهدد بالركود بعد أشهر فقط.
إن معضلة لندن مع بكين ليست فريدة من نوعها؛ فالغرب عموما يعيش ذات الأزمة بشكل جماعي ومنفرد. في الأمس كانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تقول أمام برلمان التكتل في ستراسبورغ إن "الصين تجر الاتحاد الأوروبي لمنافسة نحو القاع، ويجب على الاتحاد أن يدافع عن نفسه ضد الممارسات غير العادلة".
حديث فون ديرلاين استدعاه السيارات الكهربائية الصينية الرخيصة التي انتشرت في شوارع مدن الاتحاد الأوروبي. لكن ما بين السطور يتجاوز بكثير تلك السيارات التي تتيح لبكين التسلل إلى شبكات الإنترنت، وكشف أسرار صناعة المركبات في القارة العجوز. وما يحدث في هذا القطاع يدور في مجالات تجارية وصناعية كثيرة.
قبل ثلاثة أشهر فقط أطلق الاتحاد الأوروبي استراتيجيته "الاقتصادية" الجديدة تجاه الصين؛ فكل بند فيها يشير بوضوح إلى تلك المخاوف الأمنية والعسكرية التي يعيشها التكتل إزاء نفوذ بكين المتزايد داخل الدول الأوروبية. لكن لا يوجد في خطط المواجهة الأوروبية الآن، ما يقول إن الوقت قد حان للقطيعة مع بكين أو الصدام معها.
حتى الولايات المتحدة ليست بعيدة عن التجسس الصيني؛ فقبل أشهر استيقظ الأمريكيون على منطاد جاب سماء بلادهم بأكملها بحثا عن المعلومات، ورصدا لما يدور على أرض "العدو" من تحركات عسكرية وغير عسكرية. أما الحل الذي توصلت له إدارة البيت الأبيض، فهو إسقاط الجاسوس الطائر، وتحذير بكين من تكرار الفعل ذاته.
تريد أمريكا تحجيم الصين سياسيا واقتصاديا. وهي تحشد في الغرب والشرق لفتح جبهة في قارة آسيا بعد أن تخمد نيران الحرب الروسية في أوكرانيا. لكن واشنطن "تطبخ" أحلامها على نار هادئة، ولن تقبل بأي اجتهادات مؤذية من أصدقائها. خاصة وأن معادلات السياسة الدولية تتغير بتسارع مربك للمهاجم والمدافع على حد السواء.
لا تنتظر الصين "البلاء" دون حراك، فتهاجم من حيث تستطيع وكلما تقدر، كما تتحالف مع كل ناقم على الولايات المتحدة وحلفائها. المشكلة تكمن في أن "البعبع الصيني" يكبر كل يوم. وكلما تكشفت حلقة من حلقات "تغلغل" بكين في دول الغرب العظمى، تزداد جاذبيتها حول العالم، وترتفع أسهمها لدى الراغبين بتغيير النظام الدولي القائم.
ما يفضح من محاولات بكين للتسلل إلى أروقة السياسة وكشف أسرار التكنولوجيا والاقتصاد والجيش في دول الغرب، لا يعني أن دولا مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لا تحاول التجسس على الصين وشركاتها وساستها وجيشها وأنشطتها داخل الحدود وخارجها. لكن حكومة شي جين بينغ، لا تميل إلى المكاشفة مع الإعلام المحلي.
التعتيم الإعلامي ليس ميزة يمكن لبكين التفاخر بها، لكن الإعلام الغربي يروج للصين كقوة خارقة تهدم أسوار التكنولجية، وتفتح أبواب البرلمانات والجامعات والمدارس، كما تسيطر على خزائن الدول وبنيتها التحتية، إضافة إلى كشف أسرار الجيوش والمجتمعات، والتدخل في مسار كل استحقاق انتخابي يجري في أي مكان حول العالم.
الحشد الإعلامي يمهد لأي خطوة تصعيدية قد تحتاجها عواصم الغرب ضد بكين عندما يحين الوقت، وتدق "ساعة الحرب". لكنه أيضا سيف ذو حدين، ولا يمكن التنبؤ بمآلات السخط الشعبي إزاء تهديد الصين كلما فضحته الجرائد وقنوات التلفاز ومنصات التواصل. وخاصة إذا ما حولته المعارضة إلى معركة سياسية مع الحكومة القائمة.
يقول الصحفي والمؤرخ المصري محمد حسنين هيكل إن "الحروب تدور في أروقة السياسة، ومشاهدها الأخيرة فقط تنتقل إلى الميدان". إن كان الأمر كذلك، فإن حرب الغرب مع الصين قد بدأت بالفعل، ونحن ننتظر ذلك الجزء الذي سيعرض على جبهات القتال. قد يطول الوقت أو يقصر وفقا لعوامل عدة، لكن من دون نيران المعارك لن نعرف إن كان "البعبع الصيني" خارقا أم أنه مجرد وحش من ورق تضخمت صورته "صدفة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة