الواقع أن قضية التلاعب بالعملة كانت تشكل واحدة من القضايا الرئيسية على قائمة الرئيس الأمريكي حتى قبل أن ينتخب للرئاسة.
اتهم الرئيس الأمريكي ترامب في تغريدة له، الأسبوع الماضي، أوروبا والصين بالتلاعب في العملة للتنافس مع الولايات المتحدة. ومن المعروف أن أي بلد إذا ما أقدم على خفض سعر صرف عملته فإنه يكتسب قدرات تنافسية أكبر في الأسواق الخارجية لأن أسعار صادرات هذا البلد تنخفض مقومة بالعملات الأجنبية، والعكس صحيح في مجال الواردات، حيث ترتفع قيمة واردات هذا البلد مقومة بالعملة المحلية، ما يخفض من القدرات التنافسية للسلع الأجنبية في سوق هذا البلد.
الأمر الواضح إذا أنه يصعب في الحقيقة في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة إثبات أن الصين أو بلدان منطقة اليورو تتلاعب بأسعار صرف عملاتها من أجل تحقيق مكاسب تجارية مع الولايات المتحدة، فما كان صحيحا تاريخيا بالنسبة للعملة الصينية بالذات أصبح أمرا من الماضي
والواقع أن قضية التلاعب بالعملة كانت تشكل واحدة من القضايا الرئيسية على قائمة الرئيس الأمريكي حتى قبل أن ينتخب للرئاسة، إذ كانت من بين القضايا الرئيسية التي تم طرحها إبان الحملة الانتخابية له في عام 2016. فاستنادا إلى تقديرات تاريخية كانت الجهات الأمريكية تقدر أن سعر صرف العملة الصينية مقدر بأقل من قيمته الحقيقية بنحو 40% مقابل الدولار الأمريكي، ومن ثم دعا الرئيس إلى مواجهة مع الصين بشأن هذا التلاعب.
ولكن كان الواقع قد شهد تبدلا كبيرا حينما طرح الرئيس الأمريكي قضية التلاعب بالعملة منذ عام 2016 إذ ذكر الاقتصادي فريد برجستين: "لقد كنت من بين الأوائل الذين لفتوا الانتباه لتلاعب الصينيين وغيرهم بعملتهم والمطالبة بإجراءات قوية لمواجهة ذلك، ولكن ينبغي إدراك أن الموقف قد تغير بشكل كبير خلال العامين الأخيرين (2015 و2016). فقد شهدت الصين خروج كميات هائلة من رأس المال الخاص والذي أدى إلى انخفاض سعر صرف عملتها، وهو ما أشعل المخاوف في السوق من الخفض المضطرب للعملة الصينية (اليوان). وشهادة حق في صالحهم، تدخَّل الصينيون بكثافة في الاتجاه العكسي للسوق: فبدلا من شراء الدولارات لإبقاء اليوان ضعيفا، اشتروا كميات كبيرة من الدولارات للحيلولة دون انزلاقه أكثر. وتدخلهم هذا أسهم في تقوية التنافسية الأمريكية عوضا عن أن يهدمها. وهكذا فإن التلاعب بالعملة (بما في ذلك الدول الأخرى بخلاف الصين) توقف وأصبح ذكرى."
وأشار برجستين إلى أن التسهيل التجاري والمرسوم التجاري لعام 2015 يتضمن ثلاثة معايير لتصنيف بلد ما باعتباره يسيء التصرف في مجال سعر الصرف هي:
تحقيق فائض تجاري ثنائي ضخم مع الولايات المتحدة، وهو ما تحققه الصين بالفعل. وتحقيق فائض كلي في ميزان الحساب الجاري، وهو ما تترجمه وزارة التجارة على أنه يعني فائضا يبلغ أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يزيد عما تحققه الصين حاليا. وأخيرا حدوث تدخل "عنيد من جانب واحد" في أسواق الصرف، للحيلولة دون ارتفاع سعر صرف العملة، وهو بكل وضوح ما لا تقوم به الصين في الوقت الراهن.
وقد استمر في الحقيقة نفس النهج الصيني خوفا من هروب رأس المال حتى وقتنا الحاضر أي بالتدخل لصالح عدم انزلاق سعر صرف اليوان إلى مستويات تشجع على هذا الهروب. ويصعب من ثم على أي تحقيق جدي إثبات أن الصين تتلاعب بسعر صرف عملتها من أجل تحقيق مكاسب تجارية مع الولايات المتحدة.
أما بشأن اليورو العملة الأوروبية الموحدة، فتركز الولايات المتحدة في الحقيقة على ألمانيا التي تحقق فائضا تجاريا كبيرا معها. ومنذ زمن بعيد دافع مسؤولون اقتصاديون ألمان عن تحقيق بلادهم لفوائض تجارية كبيرة، وقاموا بالرد على انتقاد الإدارة الأمريكية للسياسة التجارية الألمانية. وقد أتى ذلك على سبيل المثال في بداية حكم الرئيس ترامب، وذلك في أعقاب اجتماع المسؤولين الماليين في مجموعة العشرين في ألمانيا في مارس 2017، حيث ظهرت خلافات حول التجارة بين الولايات المتحدة وبقية مجموعة العشرين. وحيث فشل البيان النهائي للاجتماع في النص على ضرورة الحفاظ على التجارة العالمية حرة ومفتوحة كما كانت ترغب ألمانيا، وذلك نتيجة للضغوط التي مارسها وزير الخزانة الأمريكي. وقد أشار مسؤولو البنك المركزي الألماني إلى أن الفائض في ميزان الحساب الجاري الألماني معرض للانخفاض بحدة هذا العام. وأشار اقتصاديون ألمان إلى أن الفائض هو نتيجة لجهود القطاع الخاص الألماني، وأنه من الصعب التدخل لتعديل هذا الأمر بقرار سياسي.
والأمر في شأن التلاعب بالعملة الأوروبية الموحدة من أجل تحقيق مكاسب تجارية مع الولايات المتحدة يصعب في الحقيقة إثباته بوضوح خاصة خلال الوقت الراهن. فالعوامل التي قد تضعف العملة الأمريكية هي ذاتها العوامل التي تعمل على إضعاف العملة الأوروبية الموحدة. ونعني هنا بالذات قضية تباطؤ النشاط الاقتصادي وما دفعت له من تلميحات بشأن اتباع سياسة نقدية توسعية سواء في الولايات المتحدة أم بلدان منطقة اليورو. إذ تؤدي هذه السياسة التوسعية إلى خفض أسعار الفائدة وشراء السندات لضخ المزيد من السيولة في الأسواق وتوفير الائتمان بتكلفة أرخص للعمل على إعطاء دفعة للنشاط الاقتصادي. وفي الوقت نفسه الذي بدأ فيه مجلس الاحتياط الفيدرالي (بنك الولايات المتحدة المركزي) يلمح إلى إمكانية خفض سعر الفائدة وهو ما يعمل على خفض سعر صرف الدولار، كان أيضا ماريو دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي يلمح إلى إمكانية اتباع سياسة نقدية توسعية، وهو ما يؤدي أيضا إلى خفض قيمة اليورو. بل إن الوضع في منطقة اليورو في الحقيقة أسوأ منه في الولايات المتحدة، حيث انخفضت معدلات النمو وتباطأ النشاط الاقتصادي بشدة منذ بداية هذا العام، خاصة في بلدان المنطقة الأقوى اقتصاديا كألمانيا مع بقاء معدلات التضخم منخفضة للغاية.
ولذلك بادر عضو مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي فرنسوا فيليروي دو جالو بنفي اتهامات الرئيس ترامب بالتلاعب في اليورو. إذ قال "إن دور البنك يتمثل في الحفاظ على استقرار الأسعار، وليس تحديد مستويات أسعار العملات الأجنبية، وهو ما ينفي اتهامات وجّهها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن المنطقة تتلاعب باليورو لمنافع تجارية. وأضاف: "استقرار الأسعار هو أول تعهد يجب أن تفي به البنوك المركزية". وأكد: "هدفنا لمنطقة اليورو هو أن يقترب التضخم من 2% في المدى المتوسط، كما أن الهدف هو استقرار الأسعار وليس هدفنا سوق التجارة في العملات".
الأمر الواضح إذا أنه يصعب في الحقيقة في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة إثبات أن الصين أو بلدان منطقة اليورو تتلاعب بأسعار صرف عملاتها من أجل تحقيق مكاسب تجارية مع الولايات المتحدة، فما كان صحيحا تاريخيا بالنسبة للعملة الصينية بالذات أصبح أمرا من الماضي. ويكفي للتأكيد على ذلك أن هناك تقارير يعدها الكونجرس بشكل دوري بشأن الدول التي تتلاعب بأسعار صرف عملاتها لتحقيق مكاسب تجارية، ولم يتضمن أيا من هذه التقارير مؤخرا اتهامات للصين أو دول منطقة اليورو.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة