تتجه أوضاع منطقة شرق آسيا لمزيد من التوتر المشوب بحذر وسط ما يجري من تطورات سياسية وأمنية واستراتيجية خطيرة، سواء من الصين أو أمريكا.
هذا الأمر ينذر بالخطر واحتمالات الذهاب إلى مواجهات قد لا تكون شاملة، وإنما محدودة، وهو ما يؤكد أن الفصول التالية من التعامل الصيني مع تايوان ستكون مختلفة عما مضى، في ظل مقارنات محتملة لاستخدام الخيار العسكري المباشر لحسم الأمر، واستدعاء النموذج الروسي في أوكرانيا، ولكن دون تشابه كامل.
وبرغم أن الصين ليست روسيا، وأن التدخل العسكري على الأقل مستبعد في المدى القصير لحسابات داخلية وخارجية صينية، فإن هذا الأمر محل تجاذب سياسي حقيقي في ظل ما يجري في بنية النظام الدولي الراهن، وعدم وجود ضوابط يلتزمها الجميع، سواء دول كبرى أو صغرى.
ليست الإشكالية هنا سؤال: هل تستخدم الصين القوة العسكرية لحسم الأمر، والذهاب بالعالم لمواجهة جديدة في ظل سيناريوهات لا تبدو أنها ستكون صفرية؟
وإنما الإشكالية في الخيارات المطروحة، وكيفية إدارة أزمة تاريخية ظلت لمدة خمس حقب بين شد وجذب، وهو ما يؤكد أن الأزمة بقيت في إطارها، حرصًا على الحسابات الدقيقة التي يمكن التعامل معها دون صدامات، وفي ظل حكم منفصل، ولكن بقيت الأوضاع الاقتصادية على ما هي عليه ارتكانًا لواقع متشابك ومعقد لا يمكن التخلي عنه من قبل الصين وتايوان، وهو ما التزمه الجانبان وسط وضع اقتصادي معقد حَكَمته معادلة متوازنة من الحسابات، ولا يزال، ولكن بقيت إدارته مرتبطة بالجانب الصيني بالأساس، والقادر في أي توقيت على إيقاع الضرر الأكبر بالاقتصاد التايواني، بل وحجب التصدير للخارج عنه، ووقف منافذ الشحن، وعدم نقل بضائعه للعالم.
وهنا نقول إنه دون تدخل عسكري، فإن الحديث عن وسائل العقاب والتصدي الصيني لتطويق حركة تايوان قائمة وممكنة.. إذ سيكون الجميع خاسرا حال وقوع المواجهة، خاصة أن بعض دول النادي النووي موجودة في هذه المنطقة، في ظل احتمالات لاستخدام كل الخيارات -بما فيها النووي- مثلما هدد الرئيس "بوتين" في بدايات أزمة أوكرانيا، رغم توقيع دولي على بيان بشأن عدم استخدام السلاح النووي أو الترويج له، وبرغم وجود اتفاقيات دولية حاكمة، ومنها "ستارت" بكل أجيالها، إضافة لمعاهدة "سولت" التاريخية، ومعاهدة منع الانتشار النووي.
نحن أمام واقع جديد يتشكل في بنية النظام الدولي، يتعلق بالعودة لاستخدام القوة العسكرية والتلويح بها لحسم السياسات، وتنفيذ المصالح الكبرى، خاصة مع إعادة توزيع مناطق النفوذ والمصالح على مستويات متعددة، إضافة لدخول أطراف دولية وإقليمية على خط التعامل مع الأزمة، كروسيا والكوريتين، وأطراف أخرى تتحسّب لما هو قادم من خيارات، كتركيا وإيران وإسرائيل، بحثا عن دور سياسي واستراتيجي في الأزمات الدولية، بل وفي داخل أقاليم أخرى.
ستتجه الصين لاستمرار عسكرة الأزمة، ولها في ذلك حسابات سياسية داخلية، حيث يرى الحزب الشيوعي الحاكم أن استراتيجية الأمن القومي الصيني ممتدة وتقبل بالخيارات العسكرية والسياسية في آنٍ، وبرغم ما يتردد من بعض الافتراضات من أن الصين لا تريد لعب دور سياسي كبير في العالم، مكتفية بدور اقتصادي، فإن ممارسات الدبلوماسية الصينية تتم وفق مقاربات اقتصادية وتعمل في أكثر من مستوى، وفي اتجاهات عدة، وتوظف كل القدرات الصينية للوصول إلى أهدافها، ما يؤكد أن إدارة إشكالية تايوان ستكون محسومة لصالح الصين، وإن كان ورادًا استخدام الأساليب الاقتصادية أولا ثم الانتقال تدريجيا إلى المستوى العسكري على مراحل، وهو ما يتضح من سلسلة إجراءات تم العمل عليها خلال الفترة الأخيرة، واستمرار إدارة المشكلة من أعلى، وعبر استراتيجية مصالح الدولة الصينية الكبرى، والتي ما تزال تردد أن الصين "أمة واحدة"، وأنها لن تخضع لـ"ابتزاز" غربي، وأن ما يجري في التعامل مع الولايات المتحدة من "مناكفات" مرتبط أساسا بصراع اقتصادي حذر، وإن كان الجانبان سيعملان على الاستمرار دون صدامات، على اعتبار أن الاندماج الهيكلي بين اقتصاد البلدين قائم ولن يتفكك في المَدَيين المتوسط وطويل الأجل.
الإشكالية الحقيقية في التصعيد من الجانب الأمريكي والمرتبط بحسابات تراها الصين ضيقة وترتبط بأبعاد داخلية، كحرب الكونجرس، وبشخصيات تاريخية عملت على ملف العلاقات الصينية الأمريكية منذ أكثر من 30 عاما، مثلما جرى في حالة نانسي بيلوسي، والتي تبنّت ملف تايوان منذ أن كانت نائبة عن كاليفورنيا منذ سنوات طويلة، بل وزارت الصين من قبل أكثر من مرة، وتعبر عن تيار نافذ في الكونجرس وخارجه بهدف الدفاع عن مصالح "الأمة الأمريكية" في مواجهة الصين، في حين يتبنّى الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته، أنتوني بلينكن، استراتيجية الاحتواء، وهو ما يفسر استمرار كل قنوات التواصل بين الجانبين برغم ما يجري من تصعيد عسكري واستمرار التدريبات والمناورات العسكرية، والتي قد تؤدي في حال تصعيدها إلى صدام ربما بالخطأ.
ستظل القوة الحاكمة هي معيار ما سيجري من خيارات مطروحة على أكثر من مستوى، وسيظل الأمر مرتبطا بإمكانية حسم الخلافات السياسية عبر وسائل مباشرة، وهو ما يؤكد أن الصين ستعمل في سياق محدد من المصالح، التي لن تتراجع عنها، بصرف النظر عن استخدام القوة، أو اتباع نهج اقتصادي عبر تبنّي إجراءات وتدابير جديدة بدأت في طرحها وتوظيفها تدريجيا، وفي كل الأحوال ستظل كل المشاهد واردة، وكل السيناريوهات محتملة، ليس في منطقة جنوب شرق آسيا فقط، بل وخارجها، وفي مناطق التماس الدولية التي تتصارع فيها حسابات الدول ومصالحها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة