المصالح أولا.. قفزة صينية أوروبية على الأزمات
بشكل غير مباشر وربما غير مقصود بدت مصائب العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا "فوائد" على العلاقات الصينية- الأوروبية.
شبكة "سي إن إن" الأمريكية رصدت أحد التداعيات الأقل توقعا بعد مرور أكثر من عام على الحرب الروسية الأوكرانية، وهو تلقي الرئيس الصيني شي جين بينغ مغازلة من قادة أوروبا.
وبالنظر إلى موقف الاتحاد الأوروبي الصارم من روسيا، يمكن التفكير في أن قادة بروكسل سيتخذون نهجا قويا تجاه أهم حليف للكرملين.
لكن هذا الأسبوع في بكين، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بجوار الزعيم الصيني -الذي لم يدن الحرب الروسية- ليؤكد أن بكين وموسكو تربطهما "شراكة بلا حدود".
ماكرون مضى في كلماته لنظيره الصيني: "أعلم أن بإمكاني الاعتماد عليكم لإعادة روسيا إلى صوابها، وإعادة الجميع إلى طاولة المفاوضات".
ومضت العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي في رحلة غريبة على مدار العقد الماضي. وفي حين تم التوصل إلى اتفاق استثمار في 2020 بعد سنوات من المفاوضات، أصبح مجمدا حاليا.
ويرجع ذلك جزئيا إلى الاختلافات السياسية -حيث وصف الاتحاد الأوروبي الصين بـ"منافس للنظام"- لكن أيضًا لأن الحكومة الصينية فرضت عقوبات على أعضاء البرلمان الأوروبي بعد انتقادات وجهوها إلى بكين.
ومنذ ذلك الحين، بقيت العلاقات فاترة، ولم يساعد في ذلك عدم التواصل الشخصي خلال جائحة كورونا كذلك، وهو ما تسبب في استياء كبير بين بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي، الذين يرون العلاقات الاقتصادية مع الصين ضرورية لطموح الكتلة كي تصبح لاعبا جيوسياسيا رئيسيا.
شريك متردد
قبل الزيارة، انتقدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين الصين، واصفة إياها بأنها "تصبح أكثر قمعا داخليا وأكثر تشددا خارجيا"، لافتة إلى أنه أصبح واضحا لها أن بكين طوت صفحة فترة الإصلاحات.
ومع ذلك، قالت إن ما سبق لم يكن سبب ابتعاد أوروبا عن الصين، ولكن لتقليص أي مخاطر في شراكتهم بدلا من الانفصال عن بكين، مثلما حدث بين الصين والولايات المتحدة.
وكان الاتحاد الأوروبي أكثر صرامة بشأن روسيا عن المتوقع. ومن خلال سلسلة عقوبات ومساعدات عسكرية منسقة، فاجأت بروكسل الدبلوماسيين والمسؤولين في مؤسسات أخرى تتجاوز الحدود الوطنية، مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو) والأمم المتحدة.
لكن رفض الاتحاد الأوروبي إنزال عقوبة مماثلة على أهم صديق للرئيس الروسي فولاديمير بوتين. وأجبرت الأزمة الأوكرانية العديد من المسؤولين الأوروبيين -على مضض في بعض الحالات- استنتاج أن علاقتهم مع الصين قد تكون أهم الآن عما كانت من قبل.
ويوضح دبلوماسي أوروبي لماذا ليس ممكنا اتباع نهج صارم على غرار الولايات المتحدة للانفصال عن الصين.
وقال الدبلوماسي لشبكة "سي إن إن": "لسنا في وضع جيوسياسي أو اقتصادي أو استراتيجي لفعل ما تفعله الولايات المتحدة. لا يمكننا الابتعاد عن كل من روسيا والصين في نفس الوقت".
واستشهد بمثال: "العقوبات ضد روسيا رفعت أسعار الطاقة. هدفنا الانتقال من الغاز الروسي إلى المتجدد. جزء كبير من ذلك هو الحصول على الألواح الشمسية الرخيصة. من يصنع الألواح الشمسية الرخيصة؟ الصين. لا يمكننا استبعاد مصدرنا الأصلي للطاقة ومصدرنا الجديد في الوقت نفسه".
وأوضح دبلوماسي آخر أنه في حين "لا أحد ساذج ويعتقد أننا يجب أن نفتح بوابات الفيضان أمام التكنولوجيا الصينية"، تقبل كثيرون أنه "إذا أردنا تحقيق أهدافنا طويلة المدى، بما في ذلك أن نصبح لاعبا جيوسياسيا يمكنه التأثير على الصين، نحتاج إلى اقتصاد قوي. قيمتنا الجيوسياسية لا تساوي شيئا إذا كان اقتصادنا يعاني".
الصين تحتاج إلى أوروبا
في المقابل، يقول مسؤول كبير في المفوضية الأوروبية لـ"سي إن إن": "نعم، هناك أشياء لا يمكننا فعلها دون الصين، لا سيما فيما يتعلق بتغير المناخ. لكن تحتاج بكين إلى بروكسل أكثر مما تحتاج إلى موسكو".
وأضاف: "تكمن قوة الصين في اقتصادها. تجري أعمالا تجارية مع الاتحاد الأوروبي أكثر من روسيا. رأوا ما أمكننا فعله فيما يتعلق بالعقوبات على موسكو ولا يريدون ذلك لأنفسهم. تريد الصين كذلك أن ينظر لها كقوة عالمية مسؤولة، وليست مهتمة بقلب النظام العالمي. يخلق هذا المزيج من العوامل فرصة لنا".
إنها نظرة متفائلة للغاية، بحسب تحليل "سي إن إن"، الذي أكد أيضا أن الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، ومن بينهم أولئك ممن كان لهم تاريخ ووجهة نظر ناعمة بشأن الصين مثل فرنسا وألمانيا، أكثر حذرا مما كانوا عليه منذ سنوات.
وقال مسؤول حكومي من إحدى الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي لـ"سي إن إن": "نواجه مشكلة مع روسيا والتي سنظل نواجهها لأجيال. إذا كانت لدينا مشكلة مع الصين في الوقت نفسه، هذا شيء لا يمكننا التعامل معه بشكل صحيح جيوسياسيا".
وتابع: "يدعم الجميع زيارة ماكرون، ويوافق على أننا نحتاج إلى إصلاح العلاقات مع الصين، لكننا قلقون بشأن إلى أين ستؤول، وما تفعله الصين في السياق الأوكراني".
وتحدثت "سي إن إن" مع دبلوماسيين من دول تتبع نهجا متشددا بشأن الصين، وكانت ملاحظاتهم الأساسية تتمثل في أنه يجب إبقاء الخطوط الدبلوماسية مع الصين مفتوحة، لكن مع إدراك أن بكين لا يزال بإمكانها المشاركة بشكل مباشر في الحرب.
ويقولون إنه يجب بذل كل الجهود لثني الصين عن تخطي الخط الأحمر المتعلق بتسليح روسيا، وإنه يجب قيادة أوروبا للحوار، والتأكد من بقاء التعامل وفقا للشروط الأوروبية.
"إسفين أمريكا وأوروبا"
كان لدى الرئيس الصيني رسالة واحدة مهيمنة لنظيره الفرنسي هذا الأسبوع، وتتمثل في "لا تدع أوروبا تسقط في اللعبة الأمريكية"، بحسب مجلة "بوليتيكو" الأمريكية.
المجلة الأمريكية أكدت أن بكين حريصة على عدم وقوع الاتحاد الأوروبي أكثر تحت تأثير الولايات المتحدة، وذلك في وقت يتابع فيه البيت الأبيض سياسة أكثر حزما للتصدي للقوة الجيبوسياسية والعسكرية للصين.
وعززت الحرب الروسية على أوكرانيا التحالف بين أوروبا والولايات المتحدة، وهزت التجارة العالمية، وأعادت تنشيط الناتو، وأجبرت الحكومات على النظر في الأمور الأخرى التي قد تسوء فجأة في الشؤون العالمية. وهذا ليس موضع ترحيب في بكين، التي لا تزال تعتبر واشنطن خصمها الاستراتيجي.
وباستقبال الرئيس الصيني لنظيره الفرنسي ورئيسة المفوضية الأوروبية، كان هذا تناقضا كبيرا مع الجهود الصينية الحالية لإبقاء كبار المسؤولين الأمريكيين على مسافة بعيدة، لا سيما منذ أن ألغى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن زيارته إلى بكين خلال دراما منطاد التجسس في وقت سابق من هذا العام.
ويعلم كل من المسؤولين الأمريكيين والصينيين أن سياسة أوروبا تجاه بكين بعيدة كل البعد عن التسوية. وهذه فرصة ومخاطرة لكلا الجانبين.
وفي الشهور الأخيرة، حذر المسؤولون الأمريكيون من استعداد الصين لإرسال أسلحة إلى روسيا، وتحدثوا عن مخاطر تمكين شركات التكنولوجيا من الوصول الحر إلى الأسواق الأوروبية، حيث حققوا بعض النجاح.
وتم حظر منصة "تيك توك"، المملوكة للصين، من الهواتف الحكومية والإدارية في عدد من المواقع بأوروبا، بما في ذلك مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل. كما دفع الضغط الأمريكي هولندا لوضع ضوابط تصدير جديدة على مبيعات معدات أشباه الموصلات إلى الصين.
وعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، كان القادة الأوروبيون أكثر تشككا في مسار الصين، منتقدين طريقة تعاملها مع جائحة كوفيد، والاحتجاجات في هونغ كونغ، فضلًا عن العقوبات الصينية على الساسة الأوروبيين، والتهديدات العسكرية ضد تايوان.
وبعد ذلك، أثنى الرئيس الصيني ونظيره الروسي بالشراكة "بلا حدود" قبل أيام فقط من شن روسيا للحرب على أوكرانيا. وفي حين فرض الغرب عقوبات صارمة على موسكو، أصبحت الصين آخر اقتصاد كبير لا يزال مهتما بالحفاظ على روابط تجارية مع روسيا.
وفاجأ ذلك العديد من المسؤولين الغربيين، وأشعل جدالا محتدما في أوروبا بشأن كيفية معاقبة بكين ومدى الانسحاب من التجارة الصينية.
ورأت بكين في ماكرون شريكا طبيعيا للمساعدة في تجنب تدهور العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين، لا سيما أن أنغيلا ماركل -الشخصية المفضلة السابقة له- لم تعد المستشارة الألمانية.
وجعل استعداد ماكرون للتواصل مع أي شخص -بما في ذلك اتصالاته مع بوتين التي لاقت انتقادات حادة قبل حربه على أوكرانيا- منه جذابًا بشكل خاص، فيما سعت بكين إلى "دق إسفين" بين الاستراتيجيات الأوروبية والأمريكية بشأن الصين.