تغير المناخ وديون الشركات.. كيف ينجو المتعثرون؟ (ملف)
يفرض تغير المناخ، مخاطر كبيرة على الأشخاص الأكثر ضعفا، فهل ينطبق الشيء نفسه على الشركات؟
أصبح هذا السؤال مطروحا بعد أن ظهرت منذ أعوام تحليلات تقول إن الشركات ذات الاستدانة العالية، أي تلك التي تراكمت عليها ديون كبيرة، معرضة بشكل فريد للصدمات المناخية، فما هي العلاقة بينهما؟.. وهل هذه العلاقة تم إثباتها علميا؟.. وهل المؤسسات المالية بدأت تدرك وجودها وتضعها في الحسبان عند اتخاذ القرارات؟.. هذه الأسئلة وغيرها هو ما سيتعرض له هذا الملف.
تعد "المسافة إلى التخلف عن السداد"، مقياس يستخدم على نطاق واسع في السوق لمخاطر التخلف عن السداد في الشركات، حيث يشير إلى الدرجة التي تتجاوز بها أصول المقترض (خاصة في سياق الشركة) الالتزامات المقابلة.
ومؤخرا، بدأت أسواق المال تدرك أن هذا المقياس، يرتبط في الواقع بشكل سلبي بكمية الانبعاثات الكربونية للشركة وكثافة الكربون، ولذلك، فإن الشركات ذات البصمة الكربونية العالية تكون أكثر عرضة للتخلف عن السداد، وبالتالي فإن التعرض لمخاطر المناخ يؤثر على الجدارة الائتمانية للقروض والسندات التي تصدرها الشركات.
ومع معالجة تغير المناخ والاحتباس الحراري من خلال لوائح تنظيمية أكثر صرامة، وتكنولوجيات ناشئة جديدة، وتحولات في سلوكيات المستهلكين، يتعامل المستثمرون العالميون بشكل متزايد مع مخاطر المناخ باعتبارها جانبا رئيسيا عند تسعير الأصول المالية واتخاذ القرار بشأن تخصيص محافظهم الاستثمارية.
التعرض لمخاطر المناخ والجدارة الائتمانية
ونبهت دراسة أجراها ستيفانو باتيستون، من قسم العلوم المصرفية والمالية بجامعة زيوريخ، ونشرتها دورية "نيتشر كلايمت تشانغ" في 27 مارس/آذار 2017، لهذه العلاقة، حيث سلطت الضوء على التأثير غير المباشر الأوسع لتغير المناخ على قيمة الأصول التي تحتفظ بها البنوك والشركات المالية، وذهبت إلى أنه على الرغم من أن التعرضات المباشرة لقطاع الوقود الأحفوري صغيرة، فإن التعرضات المجمعة للقطاعات ذات الصلة بسياسات المناخ كبيرة وغير متجانسة، وتتضخم بسبب التعرضات الكبيرة غير المباشرة عبر الأطراف المالية المقابلة، وبالتالي، فإن التعرض لمخاطر المناخ يمكن أن يشكل تهديدات نظامية للاستقرار المالي العالمي.
وفي حين أن العلاقة بين التعرض لمخاطر المناخ وأسعار الأسهم تحظى باهتمام متزايد من العلماء والمستثمرين، فإن التأثير على سندات الشركات وقروضها يبدو غير مستكشف نسبيا، وساهمت دراسة قادها ماركو سبينيلي من معهد المخاطر بباريس، ونشرت في سبتمبر/أيلول 2020 بدورية "جورنال أوف كلينر برودكشن" في سد هذه الفجوة، من خلال التحقق مما إذا كان تعرض الشركة لمخاطر المناخ، التي تقاس بمستوى انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وكثافة الكربون، يرتبط بمدى ميرتون للتخلف عن السداد، وهو مقياس الجدارة الائتمانية الذي يستخدم على نطاق واسع من قبل وكالات التصنيف والمستثمرين.
وقد قامت العديد من الأبحاث بتحليل تأثير عوامل الاستدامة إما على قيمة الشركة أو على تكلفة ديونها، في حين ركزت هذه الدراسة على احتمالية التخلف عن السداد من حيث المسافة إلى التخلف عن السداد.
ولوحظ أن هناك علاقة كبيرة وسلبية بين المسافة إلى التخلف عن السداد واللوغاريتم الطبيعي لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مع ثبات باقي العوامل، ووجدت أن هذه النتيجة قوية أيضًا عند استخدام كثافة الكربون، وهي النسبة بين انبعاثات الكربون والمبيعات.
ومن أجل التحقيق في العلاقة السببية بين التعرض لمخاطر المناخ والجدارة الائتمانية، فإن الدراسة تناولت تأثير اتفاق باريس لعام 2015 باعتباره صدمة سياسية خارجية، فبعد اتفاق باريس، نجحت الشركات ذات الانبعاثات العالية في تقصير مسافة التخلف عن السداد بشكل كبير مقارنة بالشركات ذات الانبعاثات المنخفضة.
وتدعم هذه النتيجة وجهة النظر القائلة بأن الأسواق المالية تقوم بشكل متزايد بتسعير تعرض الشركات المدرجة لمخاطر المناخ.
كيف يؤثر تغير المناخ؟
هذه العلاقات السببية التي رصدتها تلك الدراسات بين التعرض لمخاطر المناخ والجدارة الائتمانية، أوجدت دراسة نشرت مؤخرا الأسباب الكامنة وراء تلك العلاقة.
ووجدت الدراسة المنشورة في 25 أغسطس/آب دورية " ريفيو أوف كوربوريت فاينانس " ، أن تغير المناخ يوجه ضربة قوية للشركات التي تعتمد على الاستدانة العالية من خلال تكثيف التكاليف التي يفرضها أصحاب المصلحة عليها ( وأصحاب المصلحة، هم الأشخاص الذين لديهم مصلحة في نجاح الشركة، مثل المستهلكين والموظفين والمستثمرين ).
ويقول هوان كوانغ، أستاذ مساعد التمويل بجامعة براينت الأمريكية، والباحث الرئيسي بالدراسة في مقال نشره بموقع (ذا كونفرسيشن):"نأخذ بعين الاعتبار المستهلكين، فتغير المناخ يمكن أن يدفع الناس إلى خلط أنماط الشراء الخاصة بهم،عن طريق شراء منتجات أكثر مراعاة للبيئة، على سبيل المثال، أو عن طريق الانخراط في المقاطعة، وبينما تشكل تفضيلات المستهلكين المتطورة تحديًا لجميع الشركات، فإنه من الصعب على الشركة المثقلة بالديون أن تتكيف، ووجدنا أنه بعد مرور عامين على مواجهة التعرض الشديد لتغير المناخ، شهدت الشركات المثقلة بالديون انخفاضًا في نمو المبيعات بنحو 1.4% في المتوسط، ومن الناحية النقدية، يُترجم ذلك إلى متوسط خسارة قدره 59.7 مليون دولار أمريكي لكل شركة".
ويضيف: "وجدنا أن تغير المناخ يثير قلق المستثمرين أيضا، حيث تواجه الشركات المعرضة لمخاطر المناخ خطر الاضطرابات المالية والتشغيلية التي قد تستنزف أموال المقرضين، وخاصة بالنسبة للشركات المثقلة بالفعل بالديون المرتفعة، ومن خلال فحص إصدارات رأس المال ضمن عينتنا من الشركات، وجدنا أن التعرض للمناخ أدى إلى خفض صافي ديون الشركات - أي الديون الجديدة مطروحا منها الديون المتقاعدة - بنحو 457 مليون دولار لكل شركة في المتوسط، وهذه عقبة إضافية أمام الشركات المثقلة بالديون التي تحاول جمع الأموال".
التوقف عن العمل
وعرف الباحثون منذ فترة طويلة أن الشركات المثقلة بالديون تكون أكثر عرضة لخطر فشل المنتجات وخسارة حصتها في السوق عندما تتدهور الظروف الاقتصادية، ووجود الكثير من الديون يمكن أن يجبر الشركات على التوقف عن العمل، كما يؤكد بعض المحللين أنه حدث مع (Toys R Us ).
ويقول كوانغ: " تشير أبحاثنا إلى أن تغير المناخ، الذي يتوقع المنتدى الاقتصادي العالمي أنه سيعرض نحو 2% من الأصول المالية العالمية للخطر بحلول عام 2100، سيدفع الشركات المهتزة بالفعل إلى حافة الهاوية، فهو يسلط الضوء على التأثيرات الهائلة وغير المتماثلة التي ستحدثها ظاهرة الاحتباس الحراري على الشركات، وحقيقة أن الشركات الأكثر عرضة للخطر من المقرر أن تتحمل الأسوأ".
من التشخيص إلى العلاج
وإذا كانت هذه الدراسات قد نجحت في تشخيص المشكلة عبر تسليط الضوء على التأثيرات غير المتناسبة لتغير المناخ على الشركات الهشة ماليا، فإنه ينبغي أن يكون هناك علاج، وهو ما أشارت إليه دراسة أخرى، اقترحت ما اسمته بـ "الحلول المناخية".
وأظهر كوانغ في دراسة أخرى نشرت في يوليو/تموز من عام 2022، كيف يمكن للشركات استخدام الابتكار للحد من نقاط الضعف المناخية لديها، حيث تبين أن كل زيادة بنسبة 1% في الابتكار المرتبط بالمناخ ــ كما تم قياسها ببيانات براءات الاختراع ــ تعمل على خفض نمو انبعاثات الكربون على مستوى الشركات بنحو 100 ألف طن متري.
ومع ذلك، فإن الشركات المثقلة بالديون قد لا تتسرع في الاستثمار في التكنولوجيات الجديدة دون بعض الحث، وهذا يعني أن الحوافز السياسية ستكون مفتاح النجاح، وهناك حاجة إلى مزيد من البحث لتحديد الشكل الذي ينبغي أن تبدو عليه، ما يؤكد كوانغ .
تجربة البنك المركزي الأوروبي
وفي إطار الحلول، تظهر تجربة للبنك المركزي الأوروبي، والذي عمل على إزالة الكربون من الشركات بهدف وضعها على مسار يتماشى مع هدف 1.5 درجة في اتفاق باريس، ولتحقيق هذه الغاية، أصبح ينظر إلى الكيفية التي تعمل بها الشركات التي تصدر السندات، ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2022، أصبح البنك المركزي الأوروبي يشتري المزيد من تلك التي تحقق أداءً أفضل في هذا الصدد وأقل من تلك التي تحقق أداءً أسوأ.
ويقول البنك في تقرير نشره على موقعه الإلكتروني: "بشكل عام، عندما نشتري سندًا، فإننا نقبل المخاطرة بأن يفقد هذا السند قيمته بمرور الوقت، ويمكن أن يكون تغير المناخ أحد أسباب ذلك، فمثلا يمكن للظواهر الجوية المتطرفة مثل حرائق الغابات أو الفيضانات أن تضرب مباني الشركات أو عملائها وتدمر مستودعاتها أو مصانعها أو مراكز بياناتها، وهذا ما يسمى "المخاطر الجسدية".
ويتابع البنك: "من الممكن أن تعاني الشركات أيضاً مما يشار إليه غالباً باسم (مخاطر التحول)، وهي المخاطر الناشئة عن التحول نحو اقتصاد أكثر مراعاة للبيئة، وقد يرغب المستهلكون في البدء في شراء منتجات بديلة، أو قد تصبح السلع والخدمات أكثر تكلفة مع فرض الحكومات ضرائب الكربون، وفي مرحلة ما، قد يحظر المشرعون أيضا بعض المنتجات كثيفة الكربون، ويمكن أن يفيد الابتكار التقني بعض الشركات، في حين ستجد شركات أخرى صعوبة في مواكبته".
ويوضح البنك: كل هذه التغييرات يمكن أن تلحق ضررا شديدا بالشركات كثيفة الكربون، مثل منتجي الطاقة أو شركات النقل التي تعتمد على الوقود الأحفوري، إذا لم تتكيف مع هذه التغييرات في الوقت المناسب، وإذا وقعوا في مشاكل مالية بسبب مثل هذه الأحداث، فإن ذلك يؤثر على قيمة سنداتهم".
ولتجنب هذه المخاطر يعمل البنك منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022، على "توجيه" مشترياته نحو الشركات ذات الأداء المناخي الأفضل، وهذا يعني العمل على زيادة الوزن في محفظته من الشركات التي تحقق أداءً أفضل، مقارنة بتلك ذات الأداء الأضعف فيما يتعلق بالمناخ.
ويقول البنك: " نتيجة لذلك، أصبحت محفظتنا أقل كثافة للكربون بشكل تدريجي، ونواصل شراء السندات من الشركات في مجموعة متنوعة من القطاعات، لا يزال الحجم الإجمالي لمشترياتنا يسترشد فقط بهدفنا المتمثل في استقرار الأسعار، ولكن أصبح من الصعب على الشركات الحصول على التمويل إذا لم تعمل على تحسين أدائها المناخي، والهدف الشامل هو وضع محفظة سنداتنا على مسار يتماشى مع أهداف اتفاقية باريس".
aXA6IDMuMTQ0LjQwLjIxNiA= جزيرة ام اند امز