الاعتراف هو المدخل الأمثل للتفاهم والاتفاق.. هذا ما عكسته مواقف وكلمات طرحها قادة العالم، أو مَنْ يمثلونهم، في قمة المناخ بغلاسكو.
من ميزات قمة غلاسكو عدمُ إنكار أي طرف دولي دور بلاده، مهما عظم شأنها أو قل، في التسبب بظاهرة التغير المناخي بطريقة أو بأخرى.
عدالة الطبيعة تتجلى في توزيع حصصها من مظاهر الاضطراب المناخي المتغير بالتساوي على المعمورة، فلا فرق بين قوة عظمى وأخرى ناشئة، ولا ميزة لقوة نووية على قوة تقليدية.
مسؤولة البيئة في الأمم المتحدة، باتريسيا اسبينوزا، لخّصت بعمق وبتفاؤل مشهد العالم بعد التغيرات المناخية الكبيرة بقولها: "تواجه البشرية خيارات صعبة لكنها واضحة".
رئيس مؤتمر الأطراف حول المناخ، ألوك شارما، لا يتوقف في تحذيره عند أن مؤتمر غلاسكو هو "الأمل الأخير والأفضل" لحصر الاحترار المناخي بحدود 1.5 درجة مئوية، بل يذهب إلى وضع قادة العالم بين خيارين لا ثالث لهما، فإما "تحقيق النجاح، وإما دفن الأمل".
حين يكون الخطر عاما وشاملا لا يعود الحديث عن الأسباب وحدها مجديا، يصبح البحث عن حلول من خلال التعاطي مع النتائج المكتشفة هو الحقيقة الوحيدة الملحة، التي تتطلب القفز فوق المصالح الآنية والضيقة، وأحيانا يتحول البحث إلى فرص للتقارب والتفاهم لدرء خطر أشمل.
وضوح الخيارات يذلل الصعوبات، التي تعترض سبيل التوصل إلى الاتفاق على الحلول من ناحية، ويدفع باتجاه تحويل التحديات إلى فرص واعدة من ناحية ثانية، كما هو حاصل في نهج دولة الإمارات العربية المتحدة في جميع القطاعات الحيوية، والتي برزت خلال قمة غلاسكو كركيزة راسخة في البناء العالمي المنشود لمواجهة التغير المناخي وآثاره الخطيرة من خلال قاعدة الاستثمار الأمثل بعائديته النافعة للكوكب وسكانه.
لقد طرحت الإمارات نظريتها بشأن "الاستثمار في المبادرات المناخية" خلال مشاركتها في جلسة المجلس الأطلسي ضمن فعاليات مؤتمر المناخ.
ويلخص الدكتور سلطان بن أحمد الجابر، وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، المبعوث الخاص لدولة الإمارات إلى قمة التغير المناخي، نظرية بلاده بقوله: "الاستثمار في المبادرات المناخية التي تتسم بالشمولية والاستدامة المالية، وخفض الانبعاثات دون التأثير على النمو الاقتصادي"، ويؤكد أن الإمارات ستدعم التقدم نحو إيجاد حلول عملية قابلة للتطبيق على نطاق واسع عند استضافتها الدورة الثامنة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ عام 2023.
الانتقال إلى حيز الفعل خطوة لا مفر منها بعد الآن. دلّت المواقف والمبادرات خلال قمة غلاسكو على أن التباطؤ في معالجة مظاهر التغير المناخي سيجلب المزيد من المخاطر والمتاعب، وقد يؤدي إلى إجهاض كثير من الرؤى الجادة للحد من الانحدار المناخي نحو الأسوأ على كوكبنا.
التلطي خلف المصالح الذاتية لن يمنح أحداً صكوك الحماية ولن يجنّبه الانعكاسات الخطيرة على مجمل العملية الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية لأي دولة.
الشفافية في مواجهة ظواهر الطبيعة واضطراباتها يمكن أن تشكل قاسما مشتركا بين الجميع، بحيث يتسنى الخروج بآليات عمل موحدة تعود بالفائدة على العالم كله من جانب، وتعزز برامج التنمية البشرية والاقتصادية والتجارية لدى كل دولة على حدة من جانب آخر.
المشتركات واسعة حين يتعلق الأمر بحماية الإنسان والطبيعة كونهما طرفين متفاعلين في معادلة الوجود برمته، والقلق العالمي من جراء التدهور المناخي أشبه بالقلق الوجودي بمعناه الفلسفي، الذي عرّفه الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بأنه "قلق منتج ومحفز للابتكار والإبداع"، وهو ما يتجلى في غلاسكو من خلال الحلول والنظريات المطروحة والدعوات للعمل المشترك.
لم نلمس على مدار سبعة عقود وأكثر من شبح الرعب النووي، الذي خيم على المعمورة منذ الحرب العالمية الثانية، قلقاً بمثل ما عاينّاه راهناً بفعل صخب الطبيعة وشبح التغيرات المناخية، رغم الكارثة التي يمكن أن تنجم عن استخدام السلاح النووي.
ملخص المسألة اليوم مرتبط بشمولية التهديد، والقناعة بالمسؤولية الجماعية، والإحساس الفردي بالعجز عن مواجهة الطبيعة، فلا ضربة استباقية من قبل طرف واحد تنفع، ولا رد انتقاميا بمفرده يحسم.
قمة غلاسكو تبدو النافذة الأهم لإنقاذ العالم، ومنح الإنسان بارقة أمل إضافية للمضي قدما في تعزيز وجوده وأمانه ورفاهيته وتقليص خيارات تهديده، سواء تلك الناجمة عن فعل الطبيعة، أو بفعل أخيه الإنسان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة