وسط توقعات بقرب توصل لبنان وإسرائيل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية بينهما، وبدء التنقيب عن الغاز واستخراجه تمهيدا لتصديره، ثمة حسابات متداخلة وتقاطعات كثيرة وتحديات أكثر أمام الأطراف المعنية في البلدين.
ولعل هذا ما يفسر الاحتفاء بالاتفاق المنشود من قبل هذه الأطراف حتى قبل التوصل إليه، أو حتى قبل توقيع وثيقة بهذا الخصوص، فما أن سلّم الوسيط الأمريكي، عاموس هوكشتاين، العرض الأمريكي المكتوب للجانبين، حتى ذهبت أوساط الحكم في لبنان إلى تأكيد أن العرض الأمريكي "لبّى كل مصالح لبنان"، وبدورها ذهبت الحكومة الإسرائيلية إلى القول إن الاتفاق "يحقق المصلحة الأمنية لإسرائيل ويحصنها في القانون الدولي".
في الواقع، هذه التقاطعات بين الأطراف تقف خلفها مصالح مباشرة للمعنيين بالأمر، فالجمهورية اللبنانية، التي تعاني من أقسى أزمة مالية ومعيشية، ترى في الحصول على إيرادات مالية من الطاقة أولوية قصوى لوقف الانهيار الجاري، والمساعدة في دعم صندوق النقد الدولي لها للحصول على حزمة أموال وإصلاحات، كما أن الرئيس ميشال عون، الذي ينتهي عهده مطلع الشهر المقبل، يحرص على أن يختم عهده بإنجاز من نوع الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، فيما "حزب الله" الإرهابي، الذي يدرك جيدا عدم قدرته على شن حرب ضد إسرائيل، يسعى إلى جعل الاتفاق منطلقا لتوسيع نفوذه في الداخل اللبناني، وسيطرته على مؤسسات الدولة اللبنانية، بالتزامن مع استحقاق انتخاب رئيس جديد للبلاد.
أما رئيس الحكومة الإسرائيلية، يائير لابيد، ينتظر معركة ساخنة مع خصم صعب، هو رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، في الانتخابات المقررة الشهر المقبل.. وعليه يحرص على القول إن الاتفاق سيكون إنجازا كبيرا لإسرائيل، عكس نتنياهو الذي صوّر الأمر على أنه "تنازل"، بل وصل به الأمر إلى التهديد بإلغاء الاتفاق حال وصوله إلى السلطة.. لكن الواضح أن تصريحات نتنياهو تأخذ طابع الحملات الانتخابية ضد خصمه السياسي، فمَن يتابع الموقف الإسرائيلي من قضية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان لا بد أن يقف أمام استراتيجية بعيدة المدى تقوم على رؤية واضحة بهذا الخصوص، إلى درجة أن دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في فبراير/شباط الماضي، أوصت الحكومة الإسرائيلية باتباع المرونة في التفاوض مع لبنان من أجل التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية معها، ولعل مثل هذه التوصية تقوم على تحقيق أهداف محددة، أهمها الاندماج في المحيط العربي سياسيا واقتصاديا، فضلا عن الاستفادة الاقتصادية الكبيرة من هذا الاتفاق في ظل تصاعد أهمية الطاقة عالميا على وقع تداعيات الأزمة الأوكرانية، ومثل هذا التوجه يحظى بدعم أمريكي قوي، لتحقيق الاستقرار في المنطقة، فضلا عن أهمية ذلك لتحريك مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما قد يعني رغبة أمريكية في فوز "لابيد" في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، خاصة أنه أقل رفضا من نتنياهو في قضية المسعى الأمريكي للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران.
جملة المعطيات السابقة توحي بقرب لبنان وإسرائيل من التوصل إلى اتفاق، دون أن يعني ما سبق عدم وجود تحديات قد تقف في طريق ذلك، إذ إن الأطراف المعنية تبدو أمام معادلة الوقت، وهو وقت ليس بطويل، فلبنان قد يدخل في فراغ رئاسي في ظل عدم وجود ملامح توافق حتى الآن على مَن سيخلف "عون"، كما أن فرص وصول نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية تبدو قوية، وهو ما قد يغير حسابات الداخل الإسرائيلي، كما أن الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي قد تفرز توجهات وحسابات جديدة في السياسة الأمريكية بخصوص العديد من قضايا المنطقة.
أبعد من معادلة الوقت، قد يجد الجميع نفسه أمام جدل توصيف الاتفاق اللبناني-الإسرائيلي المرتقب على نحو: هل هو مجرد اتفاق من أجل الطاقة فقط أم أنه ينبغي أن يكون مدخلا لاتفاق سلام، خاصة أن إسرائيل تطرح تعاونا مشتركا مع لبنان في حقل قانا وغيره؟
الثابت أن مرحلة ما بعد الاتفاق لن تكون كما قبله على أصعدة السياسة والاقتصاد والتعاون بين البلدين والمنطقة عموما، ولعل العنوان الأكبر في جدل التوصيف المقبل سيكون له علاقة بإيجاد بيئة تجعل من الطاقة منتجا للسياسة والتعاون الإقليمي بدلا من الحرب والصراع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة