هل تسبب التطرف اليساري داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي في الإسراع بنهاية الهيمنة الأمريكية وخلق ظروف مواتية لصعود قوى قطبية أخرى، مشاركة اليوم، وبديلة غدا للحضور الأمريكي المنفرد؟
هذا ما تؤكده مجلة الفورين بوليسي الأمريكية في تقرير لها بعددها الأخير، وفيه تتحدث عن فرط عقد التحالفات الأمريكية، الشرق أوسطية في السنوات الأخيرة، بعدما نجحت واشنطن قبل خمسين عاما في بلورة منظومة من الحلفاء امتدت من مصر إلى السعودية فالأردن وبقية دول الخليج العربي، أي إنها ورثت ما خلفه الاستعمار البريطاني بنوع خاص، إضافة إلى تبنّيها شبه المطلق لدولة إسرائيل.
هل لنا أن نتساءل عن السبب وراء المآلات الأمريكية المعاصرة؟
تبدو العلاقات الدبلوماسية الأمريكية الشرق أوسطية، عربيا وإسرائيليا، في أدنى مستوياتها، وصداقاتها آخذة في الاحتضار، جراء اللعب على المتناقضات، ومغازلة الأضداد، بفعل أدلجة يسارية ديمقراطية متطرفة، أفقدت الأمريكيين الحلفاء الموثوقين تاريخيا، وسط اللهاث وراء الأعداء الظاهرين، والسعي لاتفاقات سيئة السمعة من جديد.
ليس سهلا أو هينا أن ترفض زعامات شرق أوسطية، لها قدرها العالي، الردَّ على اتصال هاتفي من رئيس أمريكي، الأمر الذي يعكس قدر التدهور، الذي أصاب صورة التحالف مع واشنطن، وربما تراجع مكانة الدولة، التي ظلت لنحو سبعة عقود منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية "مالئة الدنيا وشاغلة الناس".
عقود عدة من التحالف الأمريكي-الشرق أوسطي تكاد تأفل وتتهاوى، فما من أحد بات يثق بالإعلانات الرسمية الخاصة بالتزامات واشنطن الأمنية والدبلوماسية لجهة دول المنطقة، وهو أمر طبيعي، لا سيما في ظل التهافت الأبوكريفي/الخفي الأمريكي على الدول المسببة للقلاقل في الإقليم برمته.
تبدو دول المنطقة من جراء التطرف الفكري اليساري الديمقراطي وكأنها أدركت جديا وجذريا أن سياسات التحوط الدبلوماسية العالمية هي الخيار الأنفع والأرفع تجاه واشنطن، كما أنها لم تعد تؤمن بفكرة الخيارات الحدية، بين واشنطن وموسكو أو بكين، وبدا الأمر متجاوزا الدبلوماسية، إلى حدود العقيدة القتالية والتسليح، إذ لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية ومصانعها العسكرية هي مقصد الشرق أوسطيين الوحيد، حتى لا يصحوا ذات يوم على هيمنة المعسكر الصناعي العسكري الأمريكي كَيَدٍ عُليا في المنطقة، كما هي حال تلك الجماعة في الداخل الأمريكي.
لا تبدو سياسات الديمقراطيين الأمريكية طاردة للدول العربية الشرق أوسطية فحسب، فإسرائيل أيضا، التي دائما ما اعتبرها المحللون السياسيون "ولاية أمريكية"، باتت بدورها تغرد خارج السرب الأمريكي، حتى وإن كان الوضع في زمن حكومة نفتالي بينيت أخف مما كان في عهد نتنياهو، لكن يبقى الموقف من الإشكالية الإيرانية واضحا بالرفض وعدم الانصياع أو الاستسلام لانبطاحات الديمقراطيين، في الكونجرس والبيت الأبيض.
ولعله من متناقضات القدر، كما تشير إلى ذلك الفورين بوليسي، أن قمة النقب الأخيرة بلورت إجماعا شرق أوسطي طالما حلمت به واشنطن، وسعت جاهدة لمثل تلك المقاربات في المواقف، لكن سخرية المشهد تبدّت من خلال غياب واضح لواشنطن في الصورة، وبمعنى أكثر وضوحا، أن جوهر اللقاء كان على الضد من توجهات السياسات الأمريكية، لا سيما عند الديمقراطيين بنوع خاص.
ربما يتحتم على "الرفاق الديمقراطيين" في واشنطن التوقف والتساؤل مخلصين البحث والنية لإيجاد جواب خلاق عن السبب الذي دفع ويدفع حلفاء عقود وعهود طوال، يقفزون من سفينة التحالف الأمريكي، في الوقت الذي ينسج فيه الآخرون حبال الود، بل ويضفرونها ليجعلوا منها جسورا لمعاهدات وتعهدات، وربما أحلاف جديدة في المدى الزمني القريب.
تعزو الفورين بوليسي، ولها ألف حق، ما تسميه "التراجع الجامح" للعلاقات الأمريكية الشرق أوسطية، عربيا وإسرائيليا، إلى سياسات الرؤساء الديمقراطيين بنوع خاص، وتكاد تشير بإصبعها إلى الدور الهدام لباراك أوباما وجوقته في هذا السياق، والذي كان وراء عقد من الفوضى الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم العربي لا يزال الجميع يدفع ثمنها.
حصر الديمقراطيون الأمريكيون أنصار اليسار المشهد الشرق أوسطي في النفط وأمن إسرائيل، وقالوا إن لدينا بدائل من النفط، وأن إسرائيل قد شبّت عن الطوق.
غير أنه مع الأزمة الأوكرانية اكتشفوا وهْم بدائل النفط، ومع تهديدات إيران تعود الحاجة الإسرائيلية إلى الغطاء الأمريكي.
الأمريكيون يريدون قطيعة مع موسكو وبكين، وهو ما لا يتسق ومصالح الشرق أوسطيين، الذين خُدعوا في "العم سام" أكثر من مرة.
هل هي أعراض مرضية لنهاية الهيمنة الأمريكية لما بعد الحرب العالمية الثانية؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة