الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يريد تأسيس شراكة أوروبية جديدة.
يسعى لمظلة تجمع الاتحاد الأوروبي مع دول القارة، التي لا تتمتع بعضويته.. فتمنح تلك الدول حماية سياسية ودبلوماسية وأمنية، دون أن تثقل كاهل التكتل اقتصاديا وتشريعياً وإنسانيا.
لا يبدو "ماكرون" مطمئناً كثيرا على مستقبل الاتحاد ولا القارة العجوز ككل.. والنهوض الذي يعيشه حلف الناتو منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لا يبدو كافيا ليجمع دول الغرب في مواجهة الأخطار الخارجية.. أو ربما هذا النهوض بحد ذاته هو ما يخيف الرئيس الفرنسي ويدفعه للبحث عن تجمع يراعي مصالح الدول الأوروبية فقط.
هي فرضية قريبة للواقع بالنظر إلى رغبة ساكن الإليزيه في عدم إهانة روسيا في نهاية حرب أوكرانيا.. لا يريد ماكرون لـ"البوتينية" الروسية نهاية كنهاية النازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية.. لا لشيء، وإنما لأن بلاده ليست طرفا مباشرا في المعارك، التي تدور فوق الأراضي الأوكرانية، ولا تريد أن تفتح جبهة قتال مع الروس في أوروبا.
التوصيف الدقيق لما يحدث في أوكرانيا هو الحرب، ولكن ليس بين الروس والأوكرانيين فقط، وإنما بين الروس وخصومهم في الغرب، وعلى رأسهم أمريكا وبريطانيا.
لذلك يتوقع "ماكرون" أن تستمر الحرب لسنوات، ولهذا كان من الضروري أن يوضح وزير خارجيته، جان إيف لودريان، أن بلاده "ليست طرفا مباشرا فيها"، وتريدها أن تنتهي.
فرنسا، كما هي حال ألمانيا، وكثير من الدول الأوروبية، ترغب في أن تنتهي الأزمة الأوكرانية في أسرع وقت ممكن.. الأفضل أن تنتهي عبر المفاوضات، والأفضل أيضا أن تنتهي دون فوز روسيا أو أوكرانيا.. فخسارة موسكو قد تدفعها إلى حرب نووية "خشية خطر وجودي" كما يصفه "الكرملين"، وخسارة كييف قد تفتح شهية فلاديمير بوتين على توسع جديد.
المشكلة الكبرى في استمرار الحرب الأوكرانية لسنوات لا تتمثل في تداعياتها الاقتصادية، وإنما في توسعها وتحولها إلى حرب عالمية تشتعل في القارة الأوروبية، ويتحد فيها خصوم أمريكا وبريطانيا.. فيجد الاتحاد الأوروبي نفسه بين ليلة وضحاها بين فكّي كمّاشة تأتي على كل ما حققه من حضارة وتقدم وديمقراطية على مدار عقود طويلة.
على عكس الرغبة الأمريكية، التي تزداد وضوحا، لا تريد دول الاتحاد الأوروبي للحرب أن تستمر.. ليس جميع الدول على الأقل، وبالأخص فرنسا وألمانيا.. وهو ليس خوفا من الروس، وإنما حرصا على مستقبل التكتل.. هذا إضافة إلى أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بات يُلحُّ في طلب الدعم الأوروبي.
لا يملك "ماكرون" نظرة تفاؤلية إزاء توسع الناتو في القارة العجوز.. وهو في الحقيقة توسع للولايات المتحدة وبريطانيا بالدرجة الأولى.. الدولتان حليفتان للاتحاد الأوروبي طبعا، ولكن ما ضمانات عدم استغلال هذا التوسع لتصفية حسابات مع الخصوم، ورسم خرائط نفوذ جديدة في المنطقة تهيمن عبرها الدولتان على دول أوروبية صغيرة؟
البحث عن التجمع الأوروبي الواسع، ومجهول الملامح حتى الآن، يعكس أوجها من تشاؤم الرئيس الفرنسي إزاء الفترة المقبلة عموما.
واليوم، بعد أن ظفر بولاية رئاسية ثانية بات قادرا على البوح بذلك، ولن يخشى أن يُلام أو يقال عنه "منقلب على الديمقراطيات الغربية"، أو "متردد في دعم أوكرانيا ضد روسيا"، أو "متهرب من تأييد الحلفاء".
لا يشعر "ماكرون" بالتفاؤل إزاء مستقبل الاتحاد الأوروبي أيضا. لذلك يريد إعادة النظر في اتفاقيات وقوانين الاتحاد.
ولو أنه -أي ماكرون- نادى قبل شهر واحد فقط بمراجعة بنية التكتل القانونية بذات الجرأة، التي تحدث بها أمام البرلمان الأوروبي، لكان اتُّهم باليمينية والتطرف والسعي إلى "فرانسيت"/خروج فرنسي على غرار ما فعلت المملكة المتحدة قبل سنوات قليلة مع التكتل.
التجمع أو المنظمة الأوروبية الجديدة، التي يدعو لها "ماكرون" قد تعالج مخاوفه إزاء مستقبل الاتحاد الأوروبي والقارة العجوز، وترحيب المستشار الألماني، أولاف شولتس، بهذه الرؤية يقول إن برلين تشارك باريس في تفاؤلها.. ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يُقال، وقد تختلف الآراء وتتغير النيات والأهداف عندما يبدأ العمل على بلورة المنظمة.
الحديث عن الجيش الأوروبي وقوة الردع الأوروبية، قوبل بذات الحماسة من دول عدة في التكتل، ولكن الفكرة لم تتحول إلى واقع حتى الآن، رغم أن أحداثا مختلفة وقعت في العقد الأخير أظهرت أهميتها، وكان آخرها الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان، وتعثر الأوروبيين في إجلاء رعاياهم، وحماية مصالحهم هناك بسببه.
ولا نذيع سرا بالقول إن الولايات المتحدة لن تستسيغ أي مشروع أوروبي يقلص من نفوذها في القارة العجوز، أو يصنع قطبا منافسا لها عالميا.. وإذا كانت المنظمة الأوروبية الجديدة التي يدعو لها ماكرون قد تتحول إلى مثل هذا القطب، ولو بعد مئة عام، فإن أمريكا سوف تسعى إلى وأد المشروع في مهده مهما كان الثمن وبلغت الكلفة.
ما جاء به ماكرون في "مستقبل أوروبا" قبل أيام، هو محاولة لإحياء فكرة فرنسية طرحها الرئيس الراحل فرانسوا ميتيران قبل ثلاثة عقود.. صحيح أن الظروف تغيرت والتحديات زادت، ولكن الثابتين هما أن أمريكا لا تزال الدولة الأكثر هيمنة على السياسة العالمية، والإجماع هو بوابة القرارات المصيرية في الاتحاد الأوروبي.
بالنسبة لماكرون وشولتس يكفي أن يولد من المنظمة المنتظرة جزء صغير يجنب الاتحاد الأوروبي ضم دول عدة في القارة العجوز لا تتطابق مع معاييره.. أو جزء يتيح التعاون بين دول أوروبا لترسيخ السلام وليس هزيمة الروس.
لكن كما يقول الروائي والقاص البرازيلي باولو كويلو: "لا يمكننا جميعًا رؤية الأحلام بالطريقة نفسها".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة