منذ أزمة الرسوم المسيئة في 2005 وحتى واقعة إحياء تلك الرسوم المسيئة في فرنسا 2020، مازالت قوى ظلامية تتاجر بقضية الإسلام.
في مارس 1997 شنت المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية -التي كان يقودها تنظيم الإخوان المسلمين بفرعيه العربي والهندي الباكستاني الذي يحمل اسم الجماعة الإسلامية- حملة شرسة على المحكمة الدستورية العليا، وذلك حين اكتشفوا ولأول مرة في حياتهم التي امتدت لما يقارب نصف قرن في أمريكا أن هناك نحتاً بارزاً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في القاعة الكبرى في المحكمة الدستورية العليا، وطالبوا حينها بتدمير هذا النحت الذي يجسم النبي كاملا بطول مترين.
وهذا النحت في لوحة كاملة من الرخام الإسباني بطول 13 مترا وارتفاع مترين وربع، تشمل 18 نحتاً بارزاً لمن منحوا البشرية مفهوم القانون وحكم القانون، تبدأ من الفرعون مينا موحد القطرين في مصر، وتنتهي بنابليون بونابرت، وفي الوسط سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الوحيد الذي يرمز إليه كأعظم صورة لحكم القانون؛ حيث جميعهم؛ في يده ورقة أو لوحة أو سيف، إلا نبي الإسلام في إحدى يديه كتاب وفي الأخرى سيف، ومعه اجتمع الحق والقوة؛ لأن حكم القانون يستوجب اجتماع الحق والقوة؛ وليس واحدا منهما فقط.
وبحكم عملي في واشنطن حينها طُلب مني أن أكتب تقريراً عن الموضوع، تواصلت مع فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة، وأحالني إلى تفسير ابن كثير للآية القرآنية التي تتناول معرفة أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتي تقول {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة 146]، ووجدت ابن كثير يورد قصة للصحابة في عهد الخليفة الأول أبوبكر الصديق؛ زاروا هرقل في دمشق، وأخرج لهم لوحات من حرير عليها صور الأنبياء من إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وكانت الدلالة أن الصحابة ومنهم سيدنا أبوبكر لم ينكروا على أهل الكتاب تصوير الأنبياء؛ لأن تحريم التصوير خاص بالمسلمين وليس بغيرهم.
وقد رفع ذلك التقرير رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية الدكتور طه العلواني رحمة الله عليه، وبالتأكيد كان من المستحيل أن تزيل المحكمة الدستورية هذا النحت الموجود في قلبها منذ إنشائها عام 1935، ولم يكتشفه المواطنون الأمريكيون المسلمون المقيمون على بعد خطوات منها إلا عام 1997، لذلك لم تكترث المحكمة بهذه الحملة وتجاهلتها.
قضية تصوير الأنبياء عند الغربيين قديمة منذ أيام هرقل الروم، ولكن السخرية منهم حديثة مع التوجهات الفكرية الحديثة المتمردة على الدين، والتي بدأت بأفلام عن السيد المسيح منها فيلم " الإغراء الأخير للمسيح" الذي تم عرضه 1988، والذي يظهر سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام في مواقف يصعب ذكرها، لأن اللسان يأبى والقلم يجف حبره.
ثم جاء الدور على المسلمين في سبتمبر 2005 مع الرسوم الكاريكاتورية الساخرة المنشورة في الدنمارك، ولهذه الرسوم قصة لم أكن أحب أن أذكرها، حينها تواصل معي مهندس مصري عرفت بعد أن تولى الدكتور محمد مرسي الحكم في مصر أنه من قيادات الإخوان، فقد طلب مني زميل ينتمي لنفس التنظيم أن أتعاون معه للرد على الرسوم الدنماركية؛ فزرته في مكتبه في حي قديم في دبي في الإمارات، مكتب بسيط في الطابق الأرضي في بناية قديمة؛ وناقشنا الموضوع، واقترحت عليه أن ننشئ موقعا على الإنترنت للتعريف بسيدنا محمد لغير المؤمنين به، واقترحت عليه أن يكون عنوانه "محمد الإنسان"، يقدم صورة الإنسان في نبي الإسلام، يركز على قيمه وأخلاقه، ورحمته، وتعامله الراقي مع البشر جميعا، بجميع فئاتهم وطبقاتهم وأديانهم الموجودة في محيطه، والهدف أن نقنع غير المسلم أن يحب هذا الإنسان، ويحترمه حتى وإن لم يؤمن برسالته.
أعددت له ورقه من عشر صفحات بالعنوان نفسه "محمد الإنسان"، وفعلا أطلق موقعا عنوانه "اكتشف محمد" وأخبرني حينها أن هذا الموقع قد جمع له الدكتور يوسف القرضاوي عشرة ملايين درهم إماراتي، واتفقنا أن أساعده متطوعاً بدون مقابل، وأن يتم استخدام هذا التمويل لمن يتم استكتابهم والعاملين على الموقع والأنشطة الأخرى، وفعلا طلبت من العديد من زملائي ومنهم الأستاذ الدكتور علي الكنيسي أستاذ الفلسفة الإسلامية، الذي أعد بحثا رائعا عن "الإتيكيت عند سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم".
وعندما ذهبت إليه بعد حوالي ثلاثة شهور ببعض الأبحاث التي اتفقنا على إعدادها؛ وجدته في حالة أخرى، قابلني ببرود شديد، وعدم اهتمام، ورفض استلام الأبحاث، واعتذر عن الاستمرار في المشروع؛ لأن الموضوع قد فقد أهميته وصار قديما، وهناك موضوعات أخرى أولى بالاهتمام والتركيز، ولذلك تم تخصيص التمويل لمشروع آخر، وظل الموقع فارغا إلا من المقدمة التي كتبتها، ورفضت أن يوضع اسمي عليها حتى تكون هي التعريف العام بالموقع، وبعد فترة وجيزة تم إغلاق الموقع وذهبت الملايين العشرة إلى حيث يعلم الله، واعتذرت للزملاء.
وبعد تولي الدكتور محمد مرسي الرئاسة وجدت هذا المهندس قد صار دكتوراً وأصبح المستشار الإعلامي لرئيس مصر.
ثم جاءت الرسوم الفرنسية 2015 وتمت إعادة إحيائها في 2020 حادثة قتل المدرس الذي استخدمها في فصل دراسي، وانطلقت مرة أخرى الأصوات نفسها، بالخلفيات نفسها، دون أن تقوم بفعل واحد حقيقي واقعي يتسق مع أخلاق النبي، ونص القرآن الكريم الذي يأمر بتجاهل من يستهزئ بآيات الله وليس بقتله، وفي الوقت نفسه أن يقدم المسلم ما يعبر عن حقيقة دينه ورسوله الكريم، ويعرف العالم به بالصورة الحقيقية الجاذبة؛ التي تدفعه للحب والاحترام وليس للعداء أو الكراهية .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة