منذ بروز شخصيته وتبلور آرائه الإصلاحية ضمن دائرة القرار السوفييتي ثمانينيات القرن الماضي، استقطب جورباتشوف، آخرُ زعيم سوفييتي وآخرُ رئيس للدولة السوفييتية، اهتمامَ سياسيين ومفكرين ومنظرين انهمكوا في تحليل شخصيته ونزعاته.
وتعقَّب جميع هؤلاء إشاراته وخطواته وردّات الفعل عليها من جانب الخصوم والمؤيدين على حد سواء.
وكان الدافع لدى الكل هو معرفة مدى مواءمة النهج الجورباتشوفي "البيروسترويكا" لمسيرة سبعة عقود من عمر القطب السوفييتي، الذي يتقاسم النفوذ العالمي مع القطب الغربي بزعامة الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بحلول عام 1979 كان في أعلى هيئة حاكمة في الاتحاد السوفييتي، المكتب السياسي، وبحلول عام 1985، تم اختياره لأعلى منصب في البلاد كسكرتير عام لقيادة الاتحاد السوفييتي، وانغمس في مهمة العمل لإخراج البلاد من الركود الاقتصادي.
كان جورباتشوف أشبه بشاهد حي على مسيرة الحزب الشيوعي السوفييتي منذ انتسابه إليه خمسينيات القرن الماضي.
رأى جورباتشوف "فجوة بين الأيديولوجيا الشيوعية والواقع السوفييتي"، كما كان يردد في أحاديثه، وكان يعتقد في البداية أنه يمكن ردمها دون اتخاذ خطوات جذرية، لكنه لخّص رؤيته عام 1985 حيال الواقع الجامد والمتجذر بالقول: "لا يمكن للمرء تحرير وعي الإنسان مرة واحدة من الومضات والسلاسل السابقة".
خلال سنته الأولى في المنصب، أطلق إصلاحات اقتصادية وسياسية ودستورية جذرية. وخلال العامين الأخيرين من ولايته بدا مترددًا بين تفضيل التغيير الجذري وبين معارضته.
انقسم العالم بشأنه إلى رأيين، في الداخل كما في الخارج، أحدهما رآه رجلا مدمرًا لإرث دولة قطبية تمثل قوة عظمى سياسيا وعسكريا واقتصاديا وأيديولوجيا، وآخرون اعتبروه رجل سلام وداعية ديمقراطي لبلاده وللعالم ومؤسسًا لحقبة تاريخية جديدة من السلام والاستقرار والشراكة بين دول العالم على أسس المصالح المتبادلة واحترامها.
لم تقتصر التحديات، التي واجهها صاحب البيروسترويكا وهو يحث خطاه بنيَّاتٍ إصلاحية، على قضايا داخلية سياسية واقتصادية، بل تعدَّتها إلى نطاق الأمن الاستراتيجي المتعلق بوحدة "الإمبراطورية السوفييتية" الجيوسياسية، علاوة على التحديات الخارجية التي كانت تمثلها الكتلة الغربية بقيادة واشنطن.
داخليًّا، تحركت النزعات القومية والعرقية والدينية في أكثر من مكان من بلاد مترامية الأطراف بعد أن ظلت كامنة تحت الرماد أكثر من سبعين عامًا، فحدثت فوضى واحتجاجات، أبرزها في أرمينيا سقط خلالها مئتا متظاهر أرمني برصاص قوات الأمن، ويُنقل عن "رايسا"، زوجة جورباتشوف، أن أحداث أرمينيا "تركت جورباتشوف معذَّبًا ولم يحدث الشيء نفسه أبدًا لأنه كان يرفض استخدام العنف ضد المتظاهرين".
خارجيًّا، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون يعملون ما بوسعهم إمعانًا في تفكيك الكتلة السوفييتية اقتصاديا وسياسيا وديموغرافيًّا لمنع انبعاث دولة قوية مجددًا تحت "الراية الحمراء". كان يراقب العواصف، التي تضرب في الداخل وتسرّع تفكيك الاتحاد السوفييتي، لكنه لم يلجأ إلى سلطته باستخدام القوة، التي يرفضها بشكل جذري.
خذله الغرب والأمريكيون في تقديم بدائل اقتصادية مقابل سياساته الانفتاحية، بما فيها نزع السلاح النووي، فبدا أمام جمهوره فاشلا كمفاوضٍ ندٍّ للغرب وللأمريكيين.
تبنّى جورباتشوف فكرة "أوروبا كاملة وحرة"، واقترح بناء "وطن أوروبي مشترك" يشمل الاتحاد السوفييتي. تفاوض مع "بوش الأب" بشأن انسحاب القوات السوفييتية من أوروبا الوسطى. فكّك حكم الحزب الأوحد وأدخل مفرداتٍ غير معهودة في خطاب المكتب السياسي مثل "الإجماع" و"التعددية".
في خريف عام 1990 حصل جورباتشوف على جائزة نوبل للسلام، لأنه أنهى الصراع بين الشرق والغرب.. حاول العودة إلى السياسة بعد سنوات قليلة من استقالته، لكنه حصل على نصف بالمائة فقط من الأصوات في الانتخابات الرئاسية عام 1996.
مهما قيل وسيقال بحق ميخائيل جورباتشوف، فلقد أسهم الرجل خلال مسيرته السياسية القصيرة على رأس أعلى سلطة في بلاده، في رسم ملامح اللوحة العالمية الجديدة للعلاقات الدولية، وداخليًّا حرّر السياسة والمجتمع من الأيديولوجيا وسطوتها، وأطلق العنان لعقل الإنسان السوفييتي كي يخرج من القمقم، وأسس للتعاون الدولي بروح تشارُكية بعد أن ظل أسير قطبية بين غرب وشرق يلوّن كل طرف جانبًا من اللوحة وفقًا لغاياته السياسية بعيدًا عن جوهرها الإنساني.
"جورباتشوف يصعب فهمه".. هذا ما قاله "جورباتشوف" لكاتب السيرة الذاتية ويليام توبمان.. وقديمًا قالوا: "التاريخ لا يكترث بالنيَّات".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة