رسالة ترامب إلى أردوغان مقصودة في كل كلمة فيها، وهناك عقول ومؤسسات تقف خلفها، لأن رؤساء الدول لا يكتبون الرسائل الرسمية
لم تكن رسالة الرئيس الأمريكي ترامب إلى الرئيس التركي أردوغان تغريدة على حساب الأخير على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"؛ لأن لغة الخطابات الرئاسية مقننة وواضحة ولا تحتاج إلى تعليم، لأنها من الأعراف الدبلوماسية في جميع الدول منذ نشأة فكرة السفراء غير المقيمين؛ الذين كان دورهم حمل الرسائل بين الملوك والحكام. لغة الرسائل بين حكام الدول على مر التاريخ من عصر الأباطرة والملوك والسلاطين إلى اليوم تتصف بدرجة عالية جداً من الدقة والرسمية والرقي، ولا يتم فيها التجاوز إلا كمقدمة لإعلان الحرب، وقد كان المسلمون يطلقون على الجهة التي تصدر هذا النوع من الرسائل اسم "ديوان الإنشاء" أي وزارة الرسائل الدبلوماسية، وقد كتب أبو العباس القلقشندي المتوفى سنة 821 هـ 1418م كتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"؛ الذي يقع في 14 جزءاً في تنظيم هذا الديوان، وترتيب إجراءاته، وقواعد العمل فيه ومواصفات العاملين، وقواعد ممارساتهم.
رسالة ترامب إلى أردوغان مقصودة في كل كلمة فيها، وهناك عقول ومؤسسات تقف خلفها، لأن رؤساء الدول لا يكتبون الرسائل الرسمية، وإنما تكتبها مؤسسات معينة، ويوقع عليها الرئيس فقط، وقد تمت كتابتها طبقا لنظرية "كلب بافلوف" الذي كان يسيل لعابه بمجرد سماع رنين الجرس، وهو ما عرف بنظرية الاستجابة الشرطية. فهم يعرفون أردوغان وحماقته، لذلك أرادوا أن يدفعوه إلى غزو سوريا، خصوصا أن نص محادثة ترامب معه كانت بنفس كلمات السفيرة الأمريكية "إبريل جلاسبي" لصدام حسين قبل غزو الكويت، "نحن لا نؤيد ذلك ولكن لن نقف في طريقك".
وابتلع أردوغان الإهانة من السيد القوي الذي يستطيع أن يعاقبه، ويؤلمه، وفرغ طاقة غضبه وحنقه العثماني الأهوج في الضعفاء والنساء والأطفال، فقتل ودمر وأخرج أكثر من 300 ألف إنسان من بيوتهم في برد الشتاء، انتصاراً لكرامته التي داسها ترامب في رسالته، التي قيل إنه ألقاها في القمامة أو مزقها، وردد ما تعود أن يقوله بشار الأسد مع كل انتهاك إسرائيلي لسيادة سوريا: "سوف نرد في الزمان المناسب والمكان المناسب"، ولم يعرف أحد أين أو متى يكون هذا "المناسب"؟
مع كل هذه الحقائق تخرج جوقة الأفراح الإخوانية من منصاتها المختلفة تحاول أن تصور للجماهير أن السلطان الشيطان الأحمق قد انتصر نصرا مؤزرا، وأنه أرغم ترامب على قبول شروطه، وأنه حقق كل أهدافه
وكرر ترامب الإهانة بصورة أقوى وأشد إيلاما عندما أجبر أردوغان على استقبال نائبه في قلب مكتبه في عاصمته أنقرة، بعد أن تبجح بأنه لن يستقبله، ثم اضطر أن يوقف عملياته مكرها، مع حفظ لماء الوجه بأن هناك اتفاقا قد تم توقيعه، ونجح ترامب في إرغام أنف أردوغان بإهانتين؛ واحدة عسكرية، وقبلها دبلوماسية، برسالة غير مسبوقة وصفتها المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بصورة غاية في السخرية قائلة: "أمامنا نموذج جديد من فن المراسلة، سيدخل بالتأكيد في المناهج المدرسية".. هذا النص المدرسي غير المسبوق الذي سيذكر في كتب الدبلوماسية والعلاقات الدولية لقرون قادمة؛ حين يخاطب رئيس دولة قرينه وكأنه يخاطب صبيا مشاغبا في مدرسة: "سينظر إليك التاريخ بشكل إيجابي إذا قمت بذلك بطريقة صحيحة وإنسانية. وسينظر إليك إلى الأبد كشيطان إذا لم تقم بأشياء جيدة. لا تكن قاسيا. ولا تكن أحمق."!
مع كل هذه الحقائق تخرج جوقة الأفراح الإخوانية من منصاتها المختلفة تحاول أن تصور للجماهير أن السلطان الشيطان الأحمق قد انتصر نصراً مؤزرا، وأنه أرغم ترامب على قبول شروطه، وأنه حقق كل أهدافه. يتعاملون مع الإنسان العربي والمسلم على أنه أبله، أو أحمق، أو غافل، لا يفهم إلا ما يفهمونه هم، ولا يدرك الواقع إلا بعيونهم، ولا يفكر إلا بعقولهم، وفي الحقيقة ينظر إليهم الإنسان العربي والمسلم على أنهم مجموعة من "صبيان العوالم"- والعوالم هنا جمع "عالمة" بلهجة المصريين وهي الراقصة، وعادة ينحصر دورهم في كيل المديح "للعالمة" أو الراقصة، مديحا في جمالها وحسنها، وروعتها في فن الرقص، وغالب مديحهم في ممارسة فن "مساج الأنا المتضخمة" عند الراقصة من خلال إثبات أنها وحيدة عصرها، وفريدة دهرها، ولا يدانيها في فن الرقص أحد، وكل الراقصات الأخريات لسن سوى هوامش على كتاب فنها.
قنوات "صبيان العوالم" تظن أنها قادرة على استغلال عالم "ما بعد الحقيقة" لخلق أوهام في صورة حقائق غير حقيقية، ولا علاقة لها بالواقع، يظنون أنهم قادرون على تصوير إهانة السلطان الشيطان الأحمق وإجباره على وقف حربه على المدنيين في شمال سوريا على أنه نصر مؤزر، وللأسف هم هكذا غائبون عن الوعي سابحون مع خيالات الملائكة والأنبياء الذين كانوا يصلون خلف الدكتور محمد مرسي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة