ما يشهده العالم من بروز كيانات عملاقة تتحكم في صناعة وتشكيل المعرفة والرأي ومن ثم الضمير سوف يجعل كل فكرة الديمقراطية محل شك.
جوهر فكرة الديمقراطية هو حرية الضمير الإنساني؛ ليتمكن من التعبير الصادق والأمين عما يراه في مصلحة المجتمع الذي ينتمي إليه، فيدافع عنها، ويساندها بكل قوة لا تتعدى حدود حرية ضمير شركائه في المجتمع، ولا تحقق ضرراً للمصلحة المجتمعية العليا. وعندما يفقد القدرة على كسب دعم تأييد شركاء المجتمع يقبل رأي الأغلبية حتى وإن خالف رأيه واختياراته.
هذه الفكرة تنطلق من ضمان وجود القناعة الفردية النابعة من ذات الفرد ومن ضميره الحي الحر الأمين. وهنا كان من الضروري أن يعبر الفرد بنفسه عن رأيه وقراره في كل حالة يتم فيها اتخاذ قرار، أو وضع قانون، أو سياسة للمجتمع؛ سواء أكان هذا المجتمع مجلس قرية، أو بلدية، أو حي، أو مدينة، أو ولاية، أو دولة. وقد كان هذا مطبقا فيما يعرف بالديمقراطية المباشرة في مدن اليونان القديمة فيما قبل العصر الروماني. وما يزال مطبقا في جلسات الاستماع التي تعقدها المدن والمقاطعات والمحافظات في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث يذهب المهتمون لمناقشة القرارات المطروحة في قاعة المدينة بكل حرية، مناقشة مباشرة ويصوتون عليها بأغلبية الحاضرين.
ولم يبق - مع تعقد بنية الدول والمجتمعات - من الديمقراطية إلا الشكل التمثيلي، الذي يجعل لكل عدد من المواطنين يتراوح من مئات الآلاف إلى الملايين ممثلا واحدا أو أكثر؛ يتم اختيارهم كل فترة زمنية تتراوح من سنتين إلى ست سنوات؛ عبر انتخابات حرة مباشرة، وهؤلاء الممثلون هم من يعبرون عن الضمير الحي الحر لمئات الآلاف أو للملايين الذين انتخبوهم للمدة الزمنية المقررة.
وهنا اعترض الكثيرون على عملية التمثيل هذه؛ خصوصاً أن الممثلين النيابيين ينحازون إلى رؤى قياداتهم الحزبية أكثر من جماهيرهم، ويعمل الكثير منهم طبقا لموازين مصالحه وانحيازاته أكثر من التعبير عن ضمائر من اختاروه، وقد كتب المفكر القومي الراحل الأستاذ عصمت سيف الدولة رحمة الله عليه كتاباً في هذا الموضوع عنوانه "الاستبداد الديمقراطي"، وقد قام من أعد كتاب العقيد معمر القذافي رحمة الله عليه بوضع أفكار هذا الكتاب جملة في الجزء الأول من الكتاب الأخضر.
ومع التقدم التكنولوجي الكبير اتسعت بصورة شديدة المسافة بين العملية الديمقراطية، وبين فكرة التعبير عن الضمير الحر الحي للإنسان. فقد لعبت وسائل الإعلام التقليدي من صحف ومجلات وإذاعة وتلفزيون دوراً محوريا في تشكيل وعي الإنسان، وضخ سيل من المعلومات في عقله يعيد تشكيل ضميره ويفقده جزءاً من الحيوية والحرية، ولذلك كانت وسائل الإعلام التقليدية، ومن يتحكمون فيها من حراس البوابات؛ من كبار المعلقين والمقدمين ورؤساء التحرير هم من يشكلون الضمائر ويحددون الاختيارات، ويقررون من يفوز في الانتخابات؛ بطريقة هادئة غير مباشرة تستهدف الضمير الإنساني، وتعيد تعريف المصالح والمضار، والمهم والأهم، وتدفع الإنسان للاختيار في الاتجاه الذي يريدون.
ومع الانتخابات الأمريكية عام 2008 التي فاز فيها السيد باراك أوباما دخلت تكنولوجيا وسائل التواصل الاجتماعي مجال التأثير، ونجحت في تحييد دور الإعلام التقليدي، وحلت محله، وصار يطلق عليها الإعلام الجديد، وهنا ازدادت الضغوط على الضمير الإنساني، وأصبح المتلاعبون به أكثر بكثير من الإعلام التقليدي على حد تعبير "هربرت شيللر" في كتابه: "المتلاعبون بالعقول".
فمع وسائل التواصل الاجتماعي ضاعت الحقيقة كاملة، ودخل العالم في عصر ما بعد الحقيقة، الذي يصفه قاموس أكسفورد، بأنه "حالة تكون فيها الحقائق الموضوعية قليلة الأهمية، وأضعف تأثيراً في تشكيل الرأي العام؛ إذا ما قورنت بالآراء الفردية والعواطف، والمعتقدات الشخصية، ففي هذه المرحلة من سياسات ما بعد الحقيقة؛ من السهل انتقاء بعض المعلومات للوصول إلى النتيجة التي تريدها".
هنا اتسعت المساحة بين جوهر الديمقراطية، وبين إجراءاتها، فالوسيلة وهي الانتخابات شكلها ديمقراطي، ولكن جوهرها بعيد عن حقيقة الديمقراطية؛ لأن هناك جهات كبرى ومنظمة تستخدم تكنولوجيا المعلومات الكبيرة "Big Data للتأثير على الناخبين، وتوجيه أفكارهم، وتحريك ضمائرهم في الاتجاه الذي تريده هذه الجهات ولتحقيق المصالح التي تسعى إليها.
ثم جاءت الانتخابات الأمريكية 2020 التي كانت التكنولوجيا هي الفاعل الوحيد فيها، فقد عاد الإعلام القديم لسالف عهده واسترد قوته، وكان الإعلام الجديد في أوج قوته، ولم يفقد منها شيئا، وتوسع استخدام التكنولوجيا في العملية الانتخابية سواء من خلال وسائل التصويت عبر البريد، أو التصويت الآلي عبر وسائل تكنولوجية متعددة ومتنوعة، وهذا ما جعل هذه الانتخابات الأكثر إثارة للجدل والتنازع القانوني والشعبي في تاريخ الديمقراطيات الغربية.
إن ما يشهده العالم من بروز كيانات عملاقة تتحكم في صناعة وتشكيل المعرفة والرأي ومن ثم الضمير سوف يجعل كل فكرة الديمقراطية محل شك، وسوف يقود الى إفقادها شرعيتها، لأن الوسائل التكنولوجية سوف يكون لها اليد العليا في كل مراحل العملية الديمقراطية، وسوف تقضي على فكرة الضمير الحي الحر، وتجعله ضميراً مصنعاً مشكلاً بوسائل لا يستطع العقل البشري مقاومتها، وكذلك لن تسمح لهذا الضمير المنقوص النزاهة والإرادة أن يعبر عن نفسه لان الوسائل التي يعبر من خلالها عالية التكنولوجيا لا يستطيع أن يضمن نزاهتها...لذلك يكون من المشروع التساؤل حول دور التكنولوجيا في القضاء على فكرة الديمقراطية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة