رائد المدرسة السوفيتية يرفع سلاح "الصراخ الصامت" في الجزائر
الفنان ناصر الدين داودي يتبرأ من "امرأة" جيوفاني كوستا
وكأن كل لوحة فنية تشكيلية في هذا المعرض كانت تنبعث منها ما يشبه تلك الموسيقى الهادئة التي تُريح الأنفس.
هدوء غريب في معرض "تأثيرات" للفن التشكيلي بقلب الجزائر العاصمة لصاحبه الفنان ناصر الدين داودي، الذي يعد من أقدم وأبرز الفنانين التشكيليين في الجزائر، رغم توافد المهتمين والفضوليين والمعجبين على المعرض.
- بالصور.. الفنان الجزائري أحمد طالبي يختصر مراحل التشكيل ببلاده
- بالصور.. "نظرة صيف" معرض فني في جمال الطبيعة الجزائرية
كل لوحة في هذا المعرض جعلت زواره يقفون عندها بتأمل، كل واحد حاول فهم معانيها أو أسرارها، بنظرته أو بنظرة راسمها، الذي بدا "هادئاً في شخصيته ومتمردا هادئاً في فنه".
هدوء ثم توقف ثم تأمل قد تكون "سبباً في دموع" أحد زوار المغرض، هي حقيقة كشف عنها الفنان التشكيلي لـ"العين الإخبارية" حدثت مع إحدى زائرات المعرض، فبعض اللوحات وكأنها كانت "تنطق حزناً" شبيها بموسيقى حزينة أو مشهد درامي أو سينمائي مؤثر.
مدرسة سوفيتية جزائرية
"العين الإخبارية" زارت وتجولت في معرض "تأثيرات" المقام في المركز الثقافي "مصطفى كاتب" بشارع "ديدوش مراد"، والتقت صاحبه الفنان التشكيلي ناصر الدين دوادي، الذي ظهر هادئاً جدا، وقد يكون ذلك من بين أسرار ذلك الهدوء المنبعث من لوحاته التشكيلية.
حديث "العين الإخبارية" مع "دوادي" بدأ بـ"مدى قدرة الفنان التشكيلي على التعريف بنفسه مقارنة بمدى قدرته على استنطاق خياله وأفكاره وأمانيه وحتى ذكرياته" في لوحات فنية تشكيلية.
وأوضح ذلك بالقول: "بالنسبة لي، فإن الفنان التشكيلي حتى يُعرف بنفسه عليه المرور على مرحلة طويلة وتجربة كبيرة، حتى ينضج فنُّه ويعطي ثماره، وذلك بالخبرة والمداومة، هنا يمكن للفنان التشكيلي أن يصل إلى نتيجة فنه".
الفنان التشكيلي الجزائري ناصر الدين دوادي كشف أيضا عن موهبته في الرسم التشكيلي بدأت منذ صغره، قبل أن يتولى منصب مدير "مدرسة الفنون الجميلة" في الجزائر العاصمة من 1975 إلى 1979، قبل أن يكمل دراسته في الفنون الجميلة بالاتحاد السوفيتي لمدة 7 أعوام، ثم التحق بعدها بمدرسة الفنون الجميلة لمحافظة باتنة شرقي الجزائر، وما زال إلى يومنا هذا أستاذا مدرساً بها ومن أبرز أعمدتها.
وأشار إلى أن الفترة التي درس فيها بالاتحاد السوفيتي "كانت فترة يقودها قطبان شرقي وغربي، والأمر ذاته كان الفن التشكيلي، وخلال تلك المرحلة لم تكن لدينا الحرية للتعبير عن شخصياتنا، كان هناك رسم أكاديمي وبقواعد علينا الالتزام بها، وهذا ما أكسبني أيضا خبرة كبيرة في الرسم الزيتي".
ونبه إلى أن خبرته الحالية نتيجة فترة دارسته في الاتحاد السوفيتي وخبرته في بلده الجزائر، وأن "هذا المعرض هو نتيجة لكل ذلك".
اللوحة المُبكية
ومن المفاجآت غير المتوقعة التي صادفتها "العين الإخبارية" في هذا المعرض الفني، لوحة فنية تبدو وكأنها "تنطق حزناً"، كل ما فيها "صراخ صامت" وفق ما بدا للكثيرين، وما أكد أيضا من خلال الإجابات بأن الفن التشكيلي ليس مهنة أو حرفة "بل قصة عشق" أو "مهنة تسري في عروق" هذا الفنان التشكيلي الجزائري.
"العين الإخبارية" سألت الفنان التشكيلي ناصر الدين دوادي عن سر هذه اللوحة، ولماذا تحمل كل هذا الغموض، فقد كانت هذه اللوحة "سبباً في بكاء فتاة جزائرية" بعد أن تأملتها وتمكنت من تفكيك حزنها.
هذا ما كشفه "دوادي" حينما قال: "منذ نحو 5 أيام، زارت المعرض سيدة مع ابنتها تبلغ من العمر نحو 20 سنة، بدأت تبكي بعد مشاهدتها لهذه اللوحة بدون أن أشرح لها أي شيء أو تفضيل عن هذه اللوحة الفنية، تأثرها كان كبيرا بهذه اللوحة".
وتابع قائلا: "بعدها شرحت لها هذه اللوحة، ما في اللوحة أمٌ، والأم بالفرنسية (La mère)، وكلمة البحر بالفرنسية مشابهة لها (La mer)"، وهنا قصد الفنان التشكيلي تصميمه لوحة فنية عن ضحايا الهجرة السرية الذين يلقون حتفهم غرقاً في البحار بعد تنقلهم بقوارب مطاطية أو التي تسمى "قوارب الموت"، فيما يسمى المهاجرون السريون في الجزائر بـ"الحراقة".
واستطرد شارحاً معنى تلك اللوحة: "الأم في هذه اللوحة هي البحر، وما حولها هم الحراقة (المهاجرون السريون)، وهي الأم التي تبكي على هؤلاء الأبناء الذين غرقوا في البحر، وكل ما نراه في اللوحة موجة بحرية كبيرة".
وهو ما دفعنا إلى طرح تساؤل على الفنان التشكيلي: "أي قدرة تملكها لترجمة إحساس حزين في لوحة فنية؟".
ورد على ذلك بالقول: "لا يمكن الإجابة عن الأمر تحديدا، لأن هذا الإحساس يأتي تلقائياً، أحياناً تكون درجة الإحساس عالية جدا، وفي أحيان أخرى غير موجودة على الإطلاق، وعندما يحضر الإلهام أحاول الاستفادة منه إلى أقصى حد ومباشرة العمل والتقدم فيه، الأمر مرتبط بفترات، ومن الصعب جدا شرح هذا التفصيل".
سريالية دوادي
وعن طبيعة الموضوعات والأسلوب الخاص الذي يتمتع به الفنان، أشار الفنان الجزائري داودي إلى أنه "لم يكن محض صدفة أو من عدم، بل نتيجة عمل طويل وتواصل وبحث، وتعمّدتُ عرض لوحات معرضي السابق في هذا المعرض حتى أبرز تطور خبرتي في الفن التشكيلي، والخطوط المنحنية في هذه اللوحات بدأت في الظهور بأسلوب مختلف، والمنتمي إلى السريالية".
وكشف عن بصمته الخاصة في لوحاته المعتمدة على السريالية من حيث الخطوط والألوان.
وتذكر الأبحاث بأن السريالية تستخدم للتعبير عن "العقل الباطن بشكل تصوري وإطلاق الأفكار المكبوتة والتركيز على كل ما هو غريب وغامض ولا شعوري".
وبعضٌ من زوار المغرض رأوا في تلك اللوحات الفنية أنها لـ"مجموعة من الفنانين التشكيليين وليس لفنان واحد"، واكتفى ناصر الدين دوادي في حديثه مع "العين الإخبارية" بالقول: "هذا المعرض يضم لوحات معرض سابق أيضا".
شرح اللوحات
ويرى بعض الفنانين التشكيليين في الجزائر أن شرح وتفسير اللوحات الفنية التشكيلية "لا يمكن بأي حال من الأحوال" وأنه لكل واحد "نظرته في تفكيك حقيقة ورسائل أي لوحة فنية، انطلاقاً من تكوينه وحياته وشخصيته ونفسيته".
"العين الإخبارية" سألت الفنان التشكيلي دوادي عن رأيه في ذلك، وقال: "أتفق كثيرا مع هذا الرأي، فالموسيقي يعبر عن فنه بالموسيقى والكاتب كذلك، ونحن نعبر بالألوان والأشكال".
أما عن ما تعبر عنه لوحاته الفنية من أحلام أو طموحات أو خيال، فقد أشار إلى أن ذلك مرتبط "بالتلقائية والإلهام".
اقتباس فني
وفيما يتعلق بعنوان المعرض "تأثيرات"، أوضح دوادي أن معرضه معتمد على "اقتباس من أعمال فنانين مستشرقين سواء للوحات أعجبتني أو لفنان أثّر فيّ، وأعدت رسمها بطريقتي الخاصة".
وذكر من بينها لوحات "الصيد بالأسد"، و"المرأة الجزائرية"، وأخرى للفنان الإيطالي "جيوفاني كوستا"، مشيرا إلى "أنه لا تشابه إطلاقاً بين اللوحة الأصلية ولوحته"، وذكر أنه "اقتبس فقط شكل المرأة، لكن كل الألوان واللباس التقليدي والفسيفساء فهي من تصميمي".
المرأة.. مصدر الإلهام
وعن سبب تركيز لوحاته الفنية على المرأة، أوضح الفنان دوادي أن "كل الفنانين يتأثرون وينجذبون ومصدر إلهامهم المرأة".
واستطرد قائلا: "لأن المرأة في جمالها، في كل حالاتها أُمّ، وأخت، وزوجة، وهي مصدر إلهام لأنها موجودة معنا، ومن الصعب جدا التعبير عن هذا الأمر".