«القصف الاستراتيجي».. أشكال جديدة للقوة الجوية تعيد تعريف الحروب

مع اقترابها من نهاية عامها الثالث، أصبحت حرب أوكرانيا مرتبطة بنوع معين من الحرب وهو «القصف الاستراتيجي».
وخلال حرب أوكرانيا، استخدمت روسيا باستمرار صواريخ إسكندر والمسيرات شاهد كما استخدمت كييف أنظمة الصواريخ التكتيكية الأمريكية وعددا كبيرا من المسيرات المنتجة محليًا وبالمثل اتبعت الصراعات الأخرى نمطًا مشابهًا.
- تأثير محادثات الرياض؟.. روسيا تفتح «بابا موصدا» مع أوكرانيا
- أمريكا وروسيا.. انطلاق «اجتماع الرياض» لبحث «سلام أوكرانيا»
واستخدم الحوثيون مجموعة من المسيرات الهجومية أحادية الاتجاه والصواريخ الباليستية المضادة للسفن في هجماتها بالبحر الأحمر وباتجاه تل أبيب.
وفي حين اعتمدت إسرائيل على طائراتها المأهولة للرد على الحوثيين، استخدمت أيضا أسطولها من المسيرات في غزة ولبنان وسوريا، وتناقش الآن ما إذا كانت ستستخدم المزيد من الصواريخ المجنحة والصواريخ الباليستية بدلاً من الطائرات المأهولة في المستقبل.
كما برزت الضربات الصاروخية والمسيرات في صراعات أخرى حول العالم، مثل حرب أرمينيا وأذربيجان في 2020، حول منطقة ناغورنو كاراباخ إلى الصراع في منطقة تيغراي بإثيوبيا وذلك وفقا لما ذكرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية.
وبمساعدة التقدم التكنولوجي في إنتاج المسيرات والصواريخ، تمكنت كل الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية من الحصول على قدرات لم تكن تملكها إلا القوى الكبرى وعلى الرغم من اختلاف سياقات هذه الصراعات، فقد استخدمت الأطراف المتحاربة القصف الاستراتيجي للغرض نفسه وهو تدمير الروح المعنوية وإعاقة قدرة الخصم على شن الحرب.
ورغم أن نظرية القصف الاستراتيجي ليست جديدة، فإن الطريقة التي تتم بها خضعت لتغيير جذري عما كانت عليه قبل خمسين عامًا فاختفت أساطيل القاذفات التي أسقطت آلاف القنابل في الحرب العالمية الثانية وفيتنام وبدلا منها تشن المسيرات والصواريخ ضربات دقيقة على أهدافها التي تبعد عن منصات الإطلاق.
وقبل أقل من 10 سنوات، كان استخدام إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما للمسيرات كجزء أساسي من استراتيجية مكافحة الإرهاب أمرا جديدًا ومثيرًا للجدل لكن الآن، أصبحت ضربات المسيرات والصواريخ ركيزة أساسية لكل الجيوش من القوى العظمى إلى الجماعات الإرهابية وهو ما يغير طريقة خوض الحروب وشكل الصراعات لعقود قادمة.
إلا أن هذا التغيير لا يحل السؤال الأكثر جوهرية المتمثل في الحرب الاستراتيجية فربما يعمل القصف الدقيق بعيد المدى على تغيير وسائل خوض الحروب، لكنه لن يغير على الأرجح نتائجها.
ولمدة قرن تقريبًا، كانت الحرب الاستراتيجية مرتبطة إلى حد كبير بالقاذفات التي سمحت للدول بتسليم كميات كبيرة من الذخائر بتكلفة زهيدة وفاعلية نسبية، مما جعلها الأداة المفضلة للاستهداف الجوي.
وفي البداية، كانت الدول تضع قاذفاتها بالقرب من القتال وكثيراً ما استخدمتها لإسقاط أسلحة غير موجهة أو موجهة بشكل طفيف بالقرب من أهدافها وفي النهاية أصبحت القاذفات أكثر دقة خاصة بعد عملية عاصفة الصحراء عام 1991، حين احتلت الذخائر الأمريكية الموجهة مكانة بارزة.
واليوم، لم تعد القاذفات هي الاقتراح الرخيص والفعال مثلما كانت سابقا حيث يجعلها حجمها وبصماتها الرادارية عرضة بشكل أكبر للدفاعات الجوية الحديثة كما أنها أصبحت أكثر تكلفة مما كانت عليه.
ومن المعروف أن قاذفة الشبح بي-2 سبيريت، التي تم تقديمها لأول مرة في تسعينيات القرن العشرين، تكلف نحو 2 مليار دولار لكل طائرة، وستكون القاذفة بي-21 رايدر التي لا تزال قيد الاختبار أرخص، لكن لا يزال سعرها أكثر من 700 مليون دولار.
وفي ظل وجود حدود لعدد القاذفات التي يمكن حتى للدول الغنية شراؤها وتحمل خسارتها في الحرب كما أن تقدم التكنولوجيا سيؤدي إلى أن يتسارع التحول إلى عصر الصواريخ والمسيرات.
لقد جمعت الصين ترسانة من آلاف الصواريخ ذات المدى المتفاوت، وتعمل أيضا على توسيع أسطولها من المسيرات والأمر نفسه بالنسبة لروسيا، التي عززت منذ 2022 استثماراتها في تكنولوجيا المسيرات وزادت بشكل كبير من إنتاجها من الصواريخ الباليستية والصواريخ المجنحة وذلك رغم العقوبات الغربية.
وتعمل الولايات المتحدة على مضاعفة جهودها في مجال المسيرات من خلال برامج مثل مبادرة "Replicator"، التي تهدف إلى إنتاج آلاف المسيرات القابلة للتدمير، وبأسعار رخيصة وفي الوقت نفسه تواصل واشنطن تطوير استراتيجيات استخدام القاذفات التقليدية كوسيلة لإطلاق الصواريخ والمسيرات.
وقديما كان القصف الاستراتيجي حكرا على القوى العظمى، لأنها كانت الوحيدة التي تمتلك المعرفة التكنولوجية والميزانية اللازمة للحفاظ على أساطيل كبيرة من القاذفات.
وعلى النقيض، فإن تكلفة الصواريخ والمسيرات أقل، واليوم تمتلك أكثر من 30 دولة مخزونات كبيرة من الصواريخ الباليستية وقبل 5 سنوات، كانت 100 دولة وجهة فاعلة غير حكومية تتباهى بأساطيلها من المسيرات ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف السوق عن النمو.
وقد تكون حقيقة أن شن الهجمات أصبح أقل تقييداً بالمسافة مما كان عليه في الماضي أكثر خطورة، لأنه يزيد من خطر تدويل الصراعات، لأن إطلاق الضربات من مسافة تبعد ألف ميل عن الهدف يورط القوى المجاورة التي يتعين عليها أن تقرر ما إذا كانت ستسمح لتلك الضربات بالمرور عبر مجالها الجوي أم لا.
وفي حين صورت روسيا وأوكرانيا القصف الاستراتيجي على أنها ضربات محتملة للفوز بالحرب وزعم الإيرانيون أن الصواريخ التي أطلقوها كانت مصممة "لمعاقبة" إسرائيل وربما لردع العدوان في المستقبل، وقال الحوثيون إن استهداف سفن شحن وسيلة لإنهاء حرب غزة، وقالت إسرائيل إن ضرباتها ضد الحوثيين كانت تهدف إلى ردعهم عن مهاجمتها؛ فإن أياً من هذه الأهداف لم يتحقق.
ويظل السؤال هل ينجح القصف الاستراتيجي؟ حاليا يبدو أن الإجابة هي لا أو على الأقل لا يمكنها أن تفوز بمفردها في الحروب.
ولا تنتهي أسباب فشل الحرب الاستراتيجية بمرور الزمن، فلا يهم ما إذا كان القصف بواسطة قاذفة أو مسيرة أو صاروخ أو غيرها حيث يظل من الممكن إحباط هذه الهجمات بواسطة الدفاعات الجوية الحديثة، ومع ذلك من غير المرجح أن تتخلى الجيوش عن هذه الطريقة قريبا خاصة مع غياب البديل.
فمثلا لجأت روسيا وأوكرانيا إلى الحرب الاستراتيجية مع ركود الخطوط الأمامية في الحرب البرية، ولا يملك الحوثيون خيارات تقليدية قليلة، ورغم أن إسرائيل لديها خيارات أكثر، لكن مع تخصيص معظم مواردها للتهديدات الأكثر إلحاحا، فإن تفجير مستودعات النفط الحوثية هو الوسيلة الأسهل نسبيا حتى وإن كانت غير فعّالة.
وستظل فكرة أن إطلاق المسيرات أو الصواريخ الموجهة إلى مجموعة الأهداف الصحيحة سينهي الصراع بشكل أسرع تهيمن على صناع القرار حتى لو كانت النتيجة غير ذلك.
aXA6IDMuMTQzLjI0Ny4xMDgg جزيرة ام اند امز