الإنذار المبكر بين التكيف والنجاة.. ماذا فعلت جيبوتي؟
أظهرت الأبحاث أن الإنذار قبل 24 ساعة من وقوع موجة حر أو عاصفة قادمة يمكن أن يقلل الضرر اللاحق بنسبة 30 في المائة.
ويعتبر تقرير نشرته سابقا الأمم المتحدة أنظمة الإنذار المبكر أداة حديثة توفر تنبؤات مناخية واحدة من أكثر تدابير التكيف فعالية من حيث التكلفة، حيث تحقق فوائد بقيمة حوالي تسع دولارات مقابل كل دولار يتم استثماره.
ومن خلال الإنذارات في الوقت المناسب، يمكن للناس اتخاذ إجراءات مبكرة عن طريق إغلاق الأبواب بأكياس الرمل لتوقع الفيضانات أو تخزين الموارد أو، في بعض الحالات القصوى، إخلاء منازلهم.
ويكفي لإدراك أهمية تلك الأداة من أجل التكيف مع تغير المناخ العلم أنه في صيف عام 2022، عندما عانت أوروبا من موسم جفاف الذي كان الأسوأ منذ 500 عام، فإن سويسرا التي توصف بأنها "بلد لا ينضب ماؤها" أخطرت بعض السلطات القروية السويسرية سكَّانها بمنع استخدام المياه لري الحدائق أو غسل السيارات أو ملء برك السباحة، وذكَّرت بندرة المياه وشدَّدت على ضرورة الاقتصاد في استخدامه، وإلّا فستلجأ السلطات إلى تقنين حصص المياه.
تجربة جيبوتي
قبل عام في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي افتتحت جيبوتي مرصداً للبحوث لدراسة آثار تغير المناخ.
وساعد المرصد، الذي ساهمت في إنشائه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، هذا البلد الأفريقي المعرَّض للجفاف والمجاعة على تحسين إدارة الموارد المائية والغذائية التي تتعرَّض بشكل متزايد لخطر الاحترار العالمي.
وسيستخدم هذا المرفق، المرصد الإقليمي للبحوث المتعلقة بالبيئة والمناخ، التقنيات النووية والتقنيات ذات الصلة لإعداد البيانات والنماذج المناخية التي يمكن الاسترشاد بها عند اتخاذ القرارات السياسية بشأن التكيف مع المناخ والقدرة على الصمود في البلد، وربما فيما يخص منطقة شرق أفريقيا بأكملها.
وفي مواجهة ندرة المياه بسبب انخفاض مستويات الأمطار، فإنَّ سكان جيبوتي البالغ عددهم مليون ومائة ألف نسمة حسب إحصاءات عام 2021 معرَّضون بشدة لتغير المناخ وتستورد البلد جميع احتياجاتها الغذائية تقريباً.
ومن المتوقع أن يستمر ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الجفاف وندرة المياه وارتفاع مستويات سطح البحر في التأثير على البلد.
رئيس جمهورية جيبوتي إسماعيل عمر جيله وصف المشروع: "بفضل الوكالة الدولية للطاقة الذرية والشركاء الآخرين، أصبح هذا المرصد حقيقة على أرض الواقع - فنحن قادرون على وضع نماذج موثوقة وعملية للتكيُّف مع تغير المناخ والقدرة على الصمود الدائم".
المرصد هو إقليمي ويستفيد منه أيضا دول الشرق الافريقي كالصومال وإثيوبيا وأوغندا وجزر القمر ورواندا والسودان والصومال.
وسيضطلع المرصد في المستقبل ببناء القدرات وتوسيعها في منطقة شرق أفريقيا بأسرها، حيث أصبحت ندرة الغذاء الناجمة عن التغيرات المناخية تحديًّا واسع النطاق.
جيبوتي تواجه التهديد
في جيبوتي، وفي جميع أنحاء أفريقيا، يهدِّد ارتفاع درجات الحرارة والجفاف وارتفاع مستويات سطح البحر الأرواحَ وسبلَ العيش.
وقال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل ماريانو غروسي، "يقع عبء تغير المناخ بشكل غير متناسب على عاتق الفئات الأكثر ضعفاً بيننا".
وفي معرض إشارته إلى المرصد الإقليمي للبحوث المتعلقة بالبيئة والمناخ، دعا المنظمات والوكالات المعنية إلى مساعدة جيبوتي على تحقيق أولوياتها بما في ذلك أهدافها المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ.
ووفقاً للبحوث الحديثة، إذا استمر ضعف الأمطار الموسمية خلال الأعوام المقبلة فربما تهدد بموجة جفاف غير مسبوق قد تضرب القرن الأفريقي مصحوبة بمجاعة.
وأيضاً، إذا ارتفعت درجة الحرارة بمقدار درجتين مئويتين مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية، فمن المتوقع أن تتدهور أكثر من 90% من الشعاب المرجانية في شرق أفريقيا بشدة بسبب ابيضاض هذه الشعاب، وستكون مصايد الأسماك البحرية والمياه العذبة الأفريقية مهدَّدة بشكل كبير.
التكنولوجيا في خدمة التكيف
يستخدم المرصدُ المعلومات المستمدة من النظائر - وهي عناصر ذات خصائص فيزيائية وكيميائية محدَّدة - لإعداد نماذج مناخية وأدوات لرسم الخرائط.
ويتتبع المرصد، من بين أمور أخرى، منشأ الكتل الهوائية التي تجلب الأمطار، ومعدلات تجديد المياه الجوفية، وحركة المياه خلال الدورة الهيدرولوجية.
ويمكن للحكومات ووكالات المعونة استخدام هذه المعلومات للمساعدة في إدارة ومنع أزمات المياه أو غيرها من الأزمات البيئية.
فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام البيانات المستمدة من النظائر لإعداد خرائط لمواطن الضعف في المياه الجوفية يمكن من خلالها أن يتعرَّف متخذو القرارات على مدى توافر المياه في مستودعات المياه الجوفية.
ويمكن لهذه المعلومات أن تدعم إدارة مستودعات المياه الجوفية، وزيادة الوعي بنوعية المياه وندرتها، وتحسين نظم الإنذار بالجفاف والفيضانات في جيبوتي والقرن الأفريقي.
وقد أُنشئ المرصد بمساعدة برنامج الوكالة للتعاون التقني، الذي دعم برامج التدريب وأنشطة الخبراء وتوفير أحدث معدات المختبرات، ويدير المرصد موظفون محليون درَّبتهم الوكالة على مختلف التطبيقات النووية المستخدمة للتعامل مع مسائل تغير المناخ والتكيُّف معه.
ومسألة حماية البيئة وتغير المناخ هي إحدى المجالات المحدَّدة في الإطار البرنامجي القُطري الموقَّع بين جيبوتي والوكالة للفترة 2022-2027. وهذا الإطار هو المرجع للتخطيط المتوسط الأجل للتعاون التقني بين الدولة العضو والوكالة، ويحدِّد المجالات ذات الأولوية التي سيوجه فيها نقل التكنولوجيا النووية من خلال برنامج التعاون التقني لدعم الأولويات الإنمائية الوطنية.
وبين عامي 2012 و2020، دعمت الوكالة 120 بلداً، أكثرها في أفريقيا، في مشاريع التكيُّف مع المناخ. وتحضر الوكالة مؤتمرات الأمم المتحدة السنوية المعنية بتغير المناخ، التي يشار إليها عادة بمؤتمر الأطراف، وتُنظِّم عدة فعاليات لتسليط الضوء على كيفية إسهام التكنولوجيا والتطبيقات النووية في التصدي لتغير المناخ. وسينعقد مؤتمر الأطراف المقبل في 6 تشرين الثاني/نوفمبر في مصر.
نقطة عمياء مناخية
وبالحديث عن جيبوتي كنموذج للدول الافريقية التي تعاني من تغير المناخ فإن خبراء المناخ يحذرون من أن أفريقيا تقع في "نقطة عمياء مناخية"، إذ تفتقر لتوفر البيانات الجوية بشكل كافٍ، وعلى الرغم من أن مساحة القارة تفوق مساحة الصين والهند والولايات المتحدة مجتمعة، إلا أنها لا تمتلك سوى 37 محطة رادار لرصد الأحوال الجوية، بينما يوجد 345 محطة في أوروبا وحدها.
وتشير منظمة الأرصاد الجوية العالمية إلى أن إفريقيا لديها أقل شبكة رصد أرضية متطورة مقارنة بباقي القارات، وأن هذه الشبكة في تدهور مستمر، وفي ظل تزايد موجات الجفاف والفيضانات وغيرها من الأحداث المناخية المتطرفة بفعل أزمة المناخ يصبح التنبؤ الدقيق بالطقس أمرًا حيويًا لمستقبل القارة.
ونقلت صحيفة "الإندبندنت" عن نيك فان دي خيسن، أستاذ إدارة الموارد المائية بجامعة دلفت للتكنولوجيا في هولندا قوله: "بالنسبة للكثيرين في الغرب غالبًا ما تجعل التنبؤات الجوية الدقيقة حياتهم أكثر راحة، لكن في إفريقيا، إذ يعتمد الكثير من الناس على الزراعة المطرية تكون الصورة أكثر حدة".
وأضاف فان دي: "مع تغير المناخ، أصبحت الطرق التقليدية لتحديد بداية موسم الأمطار أقل موثوقية. لذلك، غالبًا ما يزرع المزارعون بعد سقوط أمطار قليلة، ثم تتوقف الأمطار فجأة ولا تنبت البذور. وهذا يمكن أن يكون مدمرًا خلال الأزمة العالمية الحالية للأمن الغذائي".
التكيف و COP 28
التكيف ضمن قضايا أخرى حاسمة في العمل المناخي تشمل التمويل والطاقة والابتكار والاستدامة وغيرها تأتي على رأس أولويات اجندة قمة "كوب 28" التي تستضيفها دولة الإمارات في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، حيث يعوّل على في تلك القمة في إعطاء دفعة كبيرة في مجال الحد من الانبعاثات والتكيف مع آثار التغيرات المناخية.
ويُقصد بالتكيف الاستثمار في سُبل التكيف مع تغير المناخ، مثل أنظمة الإنذار المبكر والنظم الغذائية وإنتاجية المحاصيل.
وأكد مستشار برنامج المناخ العالمي، مجدي علّام، في تصريحات صحفية، أن مؤتمر الاطراف الذي ستستضيفه دولة الإمارات سيسعى جاهدا لتحقيق التأثير والاختراق المطلوب لملفات مناخية رئيسية بينها المناخ حيث سيؤكد المؤتمر على تسهيل توفير التكنولوجيا الحديثة للدول النامية للتكيف مع آثار التغيرات المناخية وإنهاء احتكار بعض الشركات لها.
وتسعى دول القارة الأفريقية لدعوة والضغط على الدول المانحة للوفاء بالتزاماتها المالية السابقة لمساعدة القارة على مواجهة أزمة المناخ، إذ تشير التقديرات إلى أن إفريقيا ستحتاج 579 مليار دولار للتكيف مع آثار تغير المناخ بحلول عام 2030، لكن التمويل المناخي المتعهد به لا يزال جزءًا ضئيلًا من هذا المبلغ، ولم يتم الوفاء بمعظمه.
وأكد الدكتور سلطان الجابر وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة الإماراتي، الرئيس المعيَّن لقمّة المناخ كوب 28 في كلمته خلال أسبوع المناخ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي انعقد في العاصمة السعودية الرياض منذ أيام أنه " لتحقيق أهداف منطقتنا، يجب علينا أن نضع التكيف في مقدمة وصميم أجندة المناخ، مطالبًا الجهات المانحة بزيادة التمويل المخصص للتكيف المناخي للمثلين وتجديد موارد صندوق المناخ الأخضر".
لكن على أرض الواقع فإن نظم الإنذار بالجفاف أو غيره من الأحداث الجوية القاسية غير متاحة لحوالي ثلث سكَّان العالم.
ومنذ عام 2012، أطلقت منظمة الأمم المتحدَّة مبادرة " الإنذار المبكر للجميع" التي يشارك فيها وكالات متعددة الأطراف والبنوك الإنمائية والمنظمات الإنسانية والمجتمع المدني، لكن ما تحقق أقل بكثير مما تسعى إليه الأمم المتحدة.
وكشف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، خلال cop 27 في شرم الشيخ العام الماضي عن خطة لضمان حماية كل شخص على هذا الكوكب من خلال أنظمة الإنذار المبكر في غضون السنوات الخمس المقبلة.
وتدعو مبادرة "خطة العمل التنفيذية للإنذارات المبكرة للجميع" إلى استثمارات أولية مستهدفة جديدة بقيمة 3.1 مليار دولار أمريكي بين عامي 2023 و2027، أي ما يعادل 50 سنتاً فقط للفرد سنوياً، فهل تجد تلك الخطة الطموحة المجال لتمويل تعميم نظم الإنذار المبكر في الدول الفقيرة الأشد احتياجا لأدوات التكيف مع تغير المناخ.