مفاجِئةٌ وليست مفاجَأَة.. توصيف ينطبق على زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى دولة الإمارات العربية المتحدة يوم الجمعة الماضي.
أما لماذا هي مفاجِئة، فالجواب مرتبط ارتباطاً وثيقا بدبلوماسية الإمارات الشجاعة والنشطة. نهجٌ إماراتي راسخ في مقارباته للقضايا الدولية عموما، والعربية بشكل خاص، تترجمه دبلوماسية متزنة هادفة إلى البناء على كل ما هو إيجابي ويصب في مصلحة الاستقرار على المستويات كافة، الإقليمية والدولية.
تواترت مواقف الإمارات تجاه سوريا رغم غبار الأحداث القاسية، التي عصفت بها على مدار أكثر من إحدى عشرة سنة، وصعوبة التحديات، التي فرضتها الاصطفافات الدولية حيال أزمتها. لم ترتهن الإمارات إلا لخِياراتها الاستقلالية والسيادية في تعاطيها مع حدث بحجم الحدث السوري. استلهمت قيمها الحضارية والتاريخية والإنسانية في دعم دورها وتأثيرها وحضورها الخاص، فبرهنت في جميع مواقفها على أن خِياراتها كانت الأكثر تصويباً لمسار الحدث السوري، ليس لكونها دولةً شقيقة ومؤثرة وتمثل عمقاً استراتيجيا لأمتها العربية فحسب، بل لأن الحاضنة العربية من جانبها يمكن أن تُجنِّب سوريا كثيرا من المخاطر المحدقة بحاضرها ومستقبلها، سياسيا وسياديا ومجتمعيا، وهذا يتطلب، وفق الرؤية الإماراتية، عدم تركها نهْبًا لأطماع خارجية مختلفة الأساليب والغايات.
الزيارة "مفاجِئة" ضمن هذا السياق؟ نعم، لأنها دللت على أن الدبلوماسية الإماراتية تستند إلى رؤية عميقة وقراءة استشرافية للتحولات، التي تلوح ملامحها على المسرح الدولي، بعد أن أماطت الأزمة الأوكرانية بسياقاتها السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، اللثام عن حجم التبدلات الجيوسياسية والجيواستراتيجية، التي يمكن أن تفرزها، فنبهت إلى ضرورة التحوُّط من ارتدادات هكذا تحولات مستقبلا، وإلى أهمية المبادرة للمّ الشمل العربي وتدعيم ركائزه بما يتناسب مع قدرات ومقدرات العرب، وبما يحصّن وجودهم لمواجهة أي تصدُّعات إقليمية ودولية محتملة، ويعزز دورهم وحضورهم وتأثيرهم، وعززت ريادتها وخِيارها المستقل باستقبال الرئيس السوري بشار الأسد، في هذا التوقيت الذي فاجأ الجميع، انطلاقا من إيمانها بحرية توجهاتها وتأكيد قناعاتها بأن الوقت حان لتفعيل العمل العربي المشترك، وبأن أصعب الملفات تعقيدا، كالملف السوري، يمكن أن يجد طريقه إلى النهاية الإيجابية المرجوة عندما تُخْلص الإرادات في مسعاها وتتسلح بالإصرار الواعي.
في قراءة أخرى، تبدو الزيارة "غير مفاجِئة" لأنها ببساطة كانت قد ارتسمت معالمها وتراكمت ملامحها بوضوح منذ عام 2018، عندما رفعت الإمارات راية فك عزلة سوريا الدبلوماسية بإعادة افتتاح سفارتها بدمشق، ثم أطلقت مبادرتها الاستثنائية بشأن سوريا على لسان الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير خارجية الإمارات، القائمة على ضرورة طي صفحة الأزمة السورية ووجوب عودة دمشق إلى حاضنتها العربية وإلى ممارسة دورها على المسرح العربي والإقليمي والدولي، وتوّجتها بزيارته إلى دمشق قبل أشهر عدة.
تطوي زيارة الرئيس السوري إلى دولة الإمارات صفحة، وتفتح أخرى بالنسبة لسوريا وشعبها، وكذلك بالنسبة للعلاقات العربية-العربية، وهذا جوهر رهان الإمارات في استراتيجيتها الرامية إلى الدفع نحو الانفتاح العربي على سوريا وتفعيل دورها.
كسرت الزيارة والمباحثات بمروحتها الواسعة، التي أجراها الرئيس "الأسد" مع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، حاجز حصار سوريا عبر بوابة عربية هي الأكثر إقداما ورصانة في خطواتها تجاه سوريا.
أشاعت الزيارة مُناخاً من التفاؤل الواسع لدى أوساط المجتمع السوري بمختلف شرائحه ومستوياته.. شكّلت نافذة أمل للسوريين للعبور مجددا نحو آفاق الاستقرار والنهوض والازدهار بعد سنوات عِجاف.
الخط البياني لسياسة الإمارات ظل يسجل لدى السوريين صعودا وتفاؤلا.
فبقدر حاجة سوريا إلى عمقها العربي سياسيا واقتصاديا وأمنيا واستراتيجيا، فإن العرب يقدرون خصوصية الدور السوري وأهميته في إعادة اللحمة إلى البيت العربي مجددا، وقد أكدت الأحداث أن نهج الانفتاح والتواصل يشكّل أضعاف ما يترتب على المقاطعة، وقد جسّدت الإمارات ذلك بشكل واقعي وملموس في كثير من القضايا العربية والإقليمية والدولية، سياسية كانت أم اقتصادية أم إنسانية.
لم تقتصر فوائد راية السبْق لدبلوماسية الإمارات على ثنائية العلاقات مع سوريا، لقد حركت تلك الدبلوماسية منذ إشهارها المياه الراكدة بشأن سوريا عربيا ودوليا، وأعادت فرض الملف السوري على أجندة العمل لدى جميع الأطراف، وشكّلت مقارباتُها ومبادراتُها مرجعية للدبلوماسية العربية ولدوائر السياسة والقرار على الصعيدين الإقليمي والدولي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة