بالنظر إلى الكرامة الأوروبية الجريحة، وفي ظل حالة العجز عن الرد بالمثل، وأن يكون للفعل الروسي رد فعل أوروبي -أو غربي- مساوٍ، لم يعد أمام أوروبا إلا اللجوء لوسائل اقتصادية وثقافية ورياضية وتكنولوجية للانتقام من روسيا.
هذه الوسائل جميعها سيف ذو حدَّين، يصاب بها ومنها من يفرضها، ومن تُفرض عليه، مصدرها ومُتلقيها، كلاهما سيدفع ثمناً يختلف من الدرجة والقوة والتأثير باختلاف درجات المناعة الاقتصادية، والوزن النسبي للقطاع الذي تُفرض فيه العقوبات في الاقتصاد الوطني.
اضطرت أوروبا تحت ضغوط شديدة من القوة الأولى في حلف الناتو، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، أن تنخرط في عملية "هستيرية" من حزم العقوبات المتتالية ضد روسيا، تلك العقوبات، التي طالت جميع قطاعات الاقتصاد والتكنولوجيا والمال، وكذلك انخرطت أوروبا في خطاب شعبوي حدي يعتمد المعادلة الصفرية، ويوظف الدعاية السوداء التي "تشيطن" الخصم، وتغلق كل منافذ التعامل معه، ومن ثم تجعل الموقف الأوروبي في حفرة لا مخرج منها إلا "هزيمة روسيا"، أو "رحيل رئيسها فلاديمير بوتين"، وكلاهما أمران أقرب إلى المستحيل، لأن الشعب الروسي لن يقبل إهانة كرامته الوطنية من دولة كانت قبل نحو ربع قرن ضمن الإمبراطورية السوفييتية.
قاد هذا الوضع الدول الأوروبية، خصوصا الكبرى منها، إلى طريقين، أحدها يربك الاقتصاد الوطني لتلك الدول، والآخر يشتت الموارد ويعيق عمليات النمو والتطوير والتقدم.
أما طريق الإرباك، فقد سارت فيه أوروبا بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على روسيا، والتي سوف تطال كذلك الموارد الأولية، التي يتم استيرادها من روسيا، خصوصا المعادن التي تدخل في صناعة المعدات التكنولوجية عالية الدقة، والغاز الطبيعي، وغيرهما، هذه العقوبات سوف تدفع الدول الأوروبية للبحث عن بدائل سريعة تحل محل روسيا، وهذا أمر ليس باليسير من جانب، وسوف تكون له كُلفة اقتصادية على مستوى البنية التحتية من جانب آخر، فعلى سبيل المثال، فإن إيجاد بدائل للغاز الروسي، الذي كان يأتي عبر أنابيب سوف يستدعي البحث عن مصادر بعيدة يأتي منها الغاز سائلا، ومن ثم يحتاج إلى بنية تحتية في المواني، وفي إعادة التوزيع المحلي على المنازل والمصانع.
كذلك فإن خسارة السوق الروسية المجاور لأوروبا سيعطي مجالاً للاقتصاديات المنافسة أن تحل محل الصادرات الأوروبية، ولن تجد الدول الأوروبية أسواقا أخرى تستوعب المنتجات، التي كانت تُصدَّر إلى روسيا، بينما ستجد روسيا مصادر أخرى لتعويض الواردات الأوروبية، ولو بمستوى أقل من حيث الجودة، وأعلى من حيث السعر، وهذا بدوره سوف يؤدي إلى إرباك الاقتصاديات الأوروبية بدرجة كبيرة، ستظهر نتائجها بعد أن تضع الحرب أوزارها، ويفيق السياسيون من حالة الغضب الغرائزي، الذي تحركه دوافع حزبية وانتخابية وشخصية في كثير من الأحيان.
وأما طريق إعاقة النمو الاقتصادي الأوروبي، وتعطيل العديد من خطط تنفيذ السياسات العامة الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك تعطيل برامج الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية، فسوف تسير فيه أوروبا بسبب ما فرضته الأزمة الأوكرانية من تحويل الاقتصادات الأوروبية إلى "اقتصادات حرب" في السنوات القادمة، فسوف يتم توجيه نسبة كبيرة من الدخل القومي في الدول الأوروبية إلى التسليح والإنفاق العسكري، وهذا سوف يؤدي إلى تعطيل برامج وقطاعات أخرى في ميزانية كل دولة على حدة، ويكفي أن نعرف أن ألمانيا قررت تخصيص 100 مليار يورو للتسليح، وهذا المبلغ لن يأتي من الهواء، وإنما سيكون على حساب الاقتصاد الوطني وبرامج التنمية والتطوير والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية.
مما لا شك فيه أن أزمة أوكرانيا، التي أسهمت أوروبا وأمريكا -تحت مظلة حلف الناتو- في خلقها، سوف ترتد على الجميع بعواقب وآثار تجعل أوروبا ما بعد 24 فبراير 2022 مختلفة عما قبله، وسوف يكتب التاريخ أنها أسوأ أزمة تواجه أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وستكون أكثر سوءاً لأن عالم اليوم يختلف عن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وسوف تظهر أخطر آثارها على اقتصادات أوروبا، ومن ثمّ على مستقبل الأحزاب الحاكمة في أول انتخابات قادمة في كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وأمريكا وكندا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة