العامل الأساسي الذي يقف وراء دعوات أردوغان للحوار مع مصر هو الفشل وإحساسه بالخسارة.
أجزم بأن الرئيس التركي أردوغان نفسه، لا يصدق دعواته للحوار مع مصر، كما لا يصدق تصريحات طاقمه الحكومي عن أهمية الحوار والعلاقة مع القاهرة، خاصة الحديث الإيجابي لمستشاره ياسين أقطاي عن الجيش المصري، ووصفه له بالجيش العظيم والشقيق، وهو أقطاي نفسه الذي هاجم في وقت سابق هذا الجيش.
والسؤال هنا، ما الذي جرى حتى تتوالى الدعوات التركية للحوار مع مصر؟ وما الذي يقف وراء هذه الدعوات ؟ وهل فعلا تركيا جادة في هذه الدعوات، أم أنها محض مناورة سياسية ؟ وهل فعلا يمكن استعادة العلاقات المصرية – التركية إلى سابق عهدها في ظل حكم أردوغان؟ بداية، لا بد من الإشارة إلى أن أردوغان الذي يدعو إلى الحوار مع مصر هذه الأيام، هو نفسه أردوغان الذي ذهب بعيدا ضد الرئيس السيسي منذ وصوله إلى الحكم عقب ثورة يونيو/حزيران عام 2013، حيث تعهد مرارا بأنه لن يعترف بحكمه، واحتضن أردوغان الإخوان المسلمين، وقدم لهم مختلف أشكال الدعم، كما وفر لهم المنابر الإعلامية والسياسية، بل دعم الجماعات الإرهابية في سيناء بغية زعزعة الحكم في مصر، تطلعا لإعادة الإخوان إلى السلطة، بعد كل هذا تنهال رسائل الغزل الأردوغانية على مصر التي بقيت ثابتة على مواقفها وسياساتها من أردوغان وسياساته. وعليه، ثمة أسباب كثيرة تقف وراء دعوات أردوغان هذه، لعل أهمها:
1- تأكد أردوغان من فشل رهانه على الإخوان المسلمين في حكم مصر، ووصول سياسته تجاه مصر إلى طريق مسدود، واحساسه بأن الإخوان باتوا وبالا عليه.
2 – السياسة التي اتبعتها مصر في مواجهة التدخل العسكري التركي في ليبيا ودعمها الجماعات الإرهابية في طرابلس، وقد برزت هذه السياسة بشكل واضح، في تدمير قاعدة الوطية العسكرية، ومن ثم الخطوط الحمر التي حددها الرئيس السيسي بالجفرة وسرت، وصولا إلى المبادرة السياسية التي طرحها لحل الأزمة الليبية، وهي سياسة وضعت استراتيجية أردوغان في ليبيا على المحك.
3- ارتكاز مصر إلى سياسة إقليمية تقوم على التكامل مع دول الخليج العربي، في مواجهة التحديات التي أفرزتها السياسة التركية الإقليمية ولاسيما دعم الجماعات الإرهابية، وهي سياسة نجحت في كسب المزيد من الدعم الإقليمي والدولي.
4 - السياسة الناجحة التي اتبعتها مصر بِشأن مستقبل الطاقة في المتوسط، من خلال عقدها اتفاقيات مع اليونان وقبرص، والتعاون مع الأردن وإسرائيل وأوروبا وأمريكا، وقد تجسد هذا النجاح في تأسيس منتدى غاز المتوسط، ومن ثم تحويل هذا المنتدى إلى منظمة دولية من دون تركيا، وهو ما كان وراء السلوك الجنوني لأردوغان في ممارسة سياسة متهورة في شرقي المتوسط، وضعته على حافة الصدام مع اليونان وأوروبا، وهي سياسة أدت إلى عزلة تركيا، وسط إحساسها بأنها باتت وحيدة إلا من حليفها القطري.
5- تزايد الدعوات في الداخل التركي ولاسيما من قبل أحزاب المعارضة للحوار مع مصر، والكف عن دعم الإخوان، خاصة وأن سياسة أردوغان ألحقت خسارة كبيرة بالتجارة التركية بعد أن كانت مصر تشكل البوابة الأساسية للتجارة التركية مع أفريقيا عبر قناة السويس، كل ذلك وسط انهيار الاقتصاد التركي، وتراجع قيمة العملة التركية أمام الدولار، وانهيار مقومات الحياة المعيشية في الداخل التركي.
في الواقع إن العامل الأساسي الذي يقف وراء دعوات أردوغان للحوار مع مصر هو الفشل وإحساسه بالخسارة، والخوف من التداعيات عليه في الداخل، وعلى المستوى الخارجي إحساسه بصعوبة المعركة الجارية مع اليونان بوصف الأخيرة تشكل بوابة أوروبا التي صبرت على أردوغان طويلا قبل أن تلوح له بالعصا الغليظة. هذه الأسباب وغيرها، تقف وراء دعوات أردوغان للحوار مع مصر دون أن يغير أردوغان من حقيقة موقفه العدائي ومشروعه التوسعي، وهو ما جعل من دعواته أقرب إلى الفضيحة السياسية، إذ أن موقفه كمن يبحث عن مخرج لأزماته وتورطه في العديد من الحروب والصراعات ودعم الإرهاب. وفي الأساس، فإن مشروع أردوغان الإخواني العثماني يتعارض ويتناقض مع مشروع مصر العربي والذي يحظى بدعم كامل من دول الخليج العربي. وما ينبغي قوله هنا، هو أن مصر ليست ضد علاقة إيجابية مع تركيا الجارة التاريخية للعالم العربي، ولكن بالتأكيد ليست مع تركيا الأردوغانية التي يقوم مشروعها على التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية في إطار رؤى أيديولوجية عفى عليها الزمن.
من الواضح أن الثابت الوحيد لدى أردوغان هو السلطة والبقاء في سدتها، ومن أجل ذلك، هو مستعد لفعل كل شيء، بما في ذلك الانقلاب على نفسه، فهو مشهود بالاستعداد للتحالف مع أي جهة ومن ثم الانقلاب عليها، والعكس تماما، فهو تحالف مع الداعية فتح الله غولن قبل أن ينقلب عليه، كم عقد اتفاقا للسلام مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان قبل أن ينقلب عليه، وينكر وجود القضية الكردية في تركيا، وكان حليفا للرئيس السوري بشار الأسد والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي قبل أن ينقلب عليهما، هذا هو أردوغان لم يتغير، ودعوته للحوار مع مصر لا تخرج عن هذا السياق، وهي دعوة تؤكد عظمة الدرس المصري الذي يؤكد حقيقة فشل أردوغان، وعدم تعلمه الدروس رغم فداحة خسارته، والأثمان الباهظة التي تدفعها تركيا جراء سياساته المتهورة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة