انهيار أردوغان.. زلزال استقالات يضرب العدالة والتنمية
محاولات تجرى من وراء ستار لإقناع وزراء سابقين بالاستقالة من حزب أردوغان والانضمام إلى باباجان أو أوغلو.
تصاعدت حدة الأزمات داخل الحزب الحاكم في تركيا "العدالة والتنمية"، باستقالة عدد آخر من رموزه التاريخية، في صدارتهم سعدالله أرغين وزير العدل السابق، وبشير أطالاي الذي كان يتولى حقيبة الداخلية.
وتجرى أيضا محاولات من وراء ستار لإقناع وزراء سابقين بالاستقالة من حزب الرئيس رجب طيب أردوغان، والانضمام إلى نائب رئيس الوزراء الأسبق علي باباجان أو رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو.
ويسعى كل من باباجان وأوغلو إلى تأسيس حزبين منفصلين بعد استقالتهما من الحزب الحاكم في تركيا.
وجاءت استقالة الوزيرين السابقين، بعد أيام من الذكرى الـ18 لتأسيس حزب العدالة والتنمية الذي أنشئ في عام 2001، من قبل جناح المجددين في حزب الفضيلة الإسلامي الذي تم حله بقرار صدر من المحكمة الدستورية في 22 يونيو/حزيران 2001.
وشعار "الفضيلة" عبارة عن مصباح كهربائي مضيء بـ7 إشعاعات ترمز إلى أقاليم تركيا السبعة، ويعني النور بعد الظلام، وهو موضوع متواتر في العقيدة والأدب الإسلامي يشير إلى فترة الجاهلية.
وقدم الحزب نفسه باعتباره نموذجا يزاوج بين الإسلام والديمقراطية، وحظي بدعم الغرب باعتباره أكثر انفتاحا على الآخر.
وحققت أسهم الحزب صعودا سريعا، عندما اعترف أردوغان في عام 2004 أمام البرلمان بأنه تغير بل إنه تطور ولم يعد أردوغان القديم؛ ردا على اتهامات المعارضة له بأنه يسعى لتكريس أيديولوجية راديكالية تخاصم روح الأناضول.
واعتبر كثيرون ذلك الاعتراف شجاعة حسبت في خانة عمله السياسي، خصوصا أنه كان يؤكد طرح نسخة غير مؤدلجة عقائديا، وإنما تجربة تعتمد العمل الحزبي السياسي وفق معايير الديمقراطية المعمول بها في تركيا.
صحيح أن الحزب حقق رواجا دوليا بجانب زخم المسيرات والكتابة على الجدران الداعمة له في الداخل مع كل ذكرى تأسيسية، إلا أن تبدل مشهد الداخل، وتوجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نحو الإمساك بمفاصل الدولة حتى أصغر شأن فيها، أدى إلى استقالة عدد واسع من قيادته إضافة إلى تآكل رصيده التقليدي في الشارع.
دوافع الاستقالة
لم يعد "العدالة والتنمية" كما كان عند تأسيسه، الحزب الذي قدم قادته أنفسهم للعالم ولناخبيهم بوصفهم المدافعين عن "الديمقراطية المحافظة"؛ إذ تحول إلى إحدى أدوات ترسيخ الممارسات السلطوية لأردوغان.
والأرجح أن ثمة دوافع عديدة تقف وراء هجرة القيادات التاريخية للحزب، يمكن بيانها على النحو الآتي:
العودة إلى أفكار حزبي الرفاه والفضيلة: كان حزب العدالة والتنمية عند تأسيسه ظاهرة حزبية مغايرة، تجمع بين الورع الديني والديمقراطية واقتصاد السوق، لكنه لم يكن ليستمر على النهج ذاته؛ ففي إطار سعيه إلى استعادة إرث العثمانية، وأحلام الإمبراطورية، سرعان ما عاد إلى الأفكار الأكثر راديكالية لسلفه الأيديولوجي نجم الدين أربكان، وانحرف مسار الحزب عن تقاليد الديمقراطية المحافظة ليصبح أكثر قربا إلى تقاليد "الرؤية الوطنية" عند الرفاه والفضيلة.
تراجُع صورة تركيا في الغرب: تراجعت المناعة الدولية لتركيا بفعل ممارسات حزب العدالة والتنمية، وكشف عن ذلك تجميد الاتحاد الأوروبي لمباحثات انضمام تركيا لعضويته إضافة إلى تنامي القضايا الشائكة مع الولايات المتحدة.
ودأبت واشنطن والاتحاد الأوروبي طوال السنوات التي خلت على توبيخ تركيا بفعل سياستها القمعية في الداخل، وانخراطها السلبي في أزمات الإقليم.
ولا تزال سمعة تركيا في الغرب كما كانت منذ دولة آل عثمان، مجتمعا شرقيا مستبدا يمارس الانتقائية والعنصرية حتى ضد المرأة، ويعيش في صراع خفي بين الجيش والدولة ناهيك عن تصاعد الانقسام المجتمعي، تجلت في كراهية سائدة بين العلمانيين والدينيين، بل إثارة الدينيين ضد العلمانيين.
تصدع البناء المؤسسي للعدالة والتنمية: أدت سياسات الرئيس أردوغان إلى تصدع الحزب من الداخل، وكان بارزا هنا حدوث انشقاقات متتالية داخل الحزب، خاصة بعد الهزائم التي مُني بها الحزب في الانتخابات المحلية التي جرت في نهاية مارس/آذار الماضي، وخسارته عددا معتبرا من المدن الكبرى في الصدارة منها إسطنبول، التي فاز بها مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو في جولة الإعادة التي جرت في يونيو/حزيران الماضي، وبفارق نحو 800 ألف صوت عن بن علي يلدريم مرشح أردوغان.
والأرجح أن قطاعا واسعا من نخب العدالة والتنمية سئم توجه أردوغان نحو الفردية بهدف تثبيت طموحاته السلطوية وغرس مخالبه في جسد المجتمع والإمساك وحده بمفاصل الدولة، وكان بارزا، هنا، إقالة أحمد داود أوغلو في مايو/أيار 2016، الذي لم يكن متحمسا ولا مقتنعا بالتعديلات الدستورية التي جرت في أبريل/نيسان 2017، وحولت البلاد لجهة النظام الرئاسي، وقال خلال فترة وجوده في موقع رئاسة الوزراء: "النظام الرئاسي أولوية.. لكن إذا لم يكن فرضه ممكنا في البرلمان فلا مجال للإصرار عليه". في سياق متصل اعتمد أردوغان على معيار الولاء في تعيين الكوادر الإدارية والأمنية والعسكرية داخل مؤسسات الدولة التركية.
تراجع زخم الاقتصاد: تعاني تركيا من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، حيث فقدت الليرة أكثر من ثلث قيمتها أمام الدولار منذ أغسطس/آب 2018، وبلغ معدل التضخم نحو 19.5% بينما تخطت البطالة حاجز الـ14%.
كما أن رصيد الديون الخارجية التركية أصبح من بين أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد؛ لأن الودائع بالعملات الأجنبية أقل نسبيا لتغطية قيمة الديون، وازداد إجمالي الدين الخارجي التركي (العام والخاص) تدريجيا على مدار السنوات الـ6 الماضية، ليصل إلى أكثر من 52% من الناتج المحلي الإجمالي.
استهداف الإصلاحيين داخل العدالة والتنمية: تصاعد الاحتقان السياسي داخل الحزب بين الرئيس أردوغان، والتيار الإصلاحي، بعد رفض الأخير إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية عبر إخضاعها مباشرة لسلطة الرئيس إضافة إلى رفض هذا الجناح التوجه نحو التحالف مع حزب الحركة القومية الذي يصر على عسكرة قضايا المجتمع، وبخاصة القضية الكردية.
في هذا السياق، عمل الرئيس أردوغان منذ عام 2014 على استنزاف الأصدقاء الإصلاحيين داخل الحزب، وبدا ذلك في محاولة اتهام علي باباجان شريكه السابق في إدارة حزب العدالة والتنمية بالانتماء إلى جماعة "غولن"، ناهيك عن توصيفه للمنشقين عن حزب العدالة والتنمية بالخونة، وأكد أن مصيرهم الفشل طالما نزلوا من قطار الحزب، بل توعدهم بإجراءات عقابية قاسية.
ولم تكن هذه الاتهامات هي الأولى من نوعها؛ إذ يسعى أردوغان منذ الانقلاب الفاشل في صيف 2016 إلى إجراء عملية تطهير داخل الحزب لاجتثاث الأعضاء المشتبه بصلاتهم بفتح الله غولن، وكان بارزا هنا رسالة داخلية لأعضاء الحزب في الرابع من أغسطس/آب 2016، وحملت توقيع نائب رئيس الحزب، حياتي يازجي، الذي أكد فيها "مباشرة الحزب فورا إجراءات لتطهير صفوفه من أولئك المرتبطين بحركة غولن".
وأضاف يازجي في الرسالة أنه أمر "بتطهير فوري للتنظيم الحزبي" لاجتثاث أولئك المرتبطين مع "منظمة فتح الله الإرهابية". كما رفع أحد المحامين القريبين من الحزب في أغسطس/آب 2016 دعوى لدي المدعي العام، طالب فيها بالتحقيق مع (بولنت أرينش- سعدالله أرغين- سعاد كيليش- حسين شيليك- عبدالقادر أكسو)، وهم وزراء سابقون، ومن الآباء المؤسسين للحزب؛ بتهمة الانتماء إلى جماعة "غولن".
تداعيات كارثية
أسفرت الاستقالات المتتالية داخل حزب العدالة والتنمية طوال الشهور التي خلت عن تداعيات كارثية على صورة حزب العدالة والتنمية، ومستقبله.
تآكل شرعية أردوغان: استقالة قيادات تاريخية من حزب العدالة والتنمية، وذهابها إلى تشكيل بدائل سياسية منافسة، سحبت من شرعية وجود الرئيس أردوغان، وفرص بقائه. والأرجح أن قسما كبيرا من الأصوات التي كان يحصدها أردوغان، وضمنت بقاءه في الصدارة، لم تكن عن اقتناع، وإنما لعدم وجود بديل سياسي مقنع أو أفضل.
لكن المعادلة السياسية اليوم أصبحت مغايرة؛ إذ تحظى الساحة السياسية التركية بوجوه أكثر كاريزما، وأعظم قدرة على الأداء إضافة إلى قدرتها على بناء أرضية جامعة تتلاقى عليها مختلف القوى السياسية على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها، ومن هؤلاء صلاح الدين دميرطاش، وعلي باباجان، وإمام أوغلو، ومحرم إينجة، وميرال أكشنار.
زيادة شعبية الخصوم: أدت الممارسات السلطوية للرئيس التركي إلى زيادة رصيد خصومه في الشارع التركي. وإذا كان أردوغان قد نجح طوال السنوات التي خلت في حجب نفوذ الجناح الإصلاحي داخل العدالة والتنمية وإقصائه، إلا أنه لم يتمكن من إحداث تآكل في الرصيد التقليدي له في الشارع، وبالذات عبدالله جول، وعلي باباجان المعروف بخبرته الاقتصادية الواسعة، وكذلك وزير المالية السابق محمد شمشيك الذي أسهم قبل سنوات في إنقاذ البلاد من عثرات اقتصادية جمة.
كما أسهمت سياسة أردوغان تجاه معارضيه في رفع رصيدهم السياسي، وظهر ذلك في صعود نجم رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش، ورئيس بلدية إسطنبول إمام أوغلو.
تجدر الإشارة إلى أن كل هؤلاء حظوا بشعبية جارفة داخل الشارع التركي، وكل منهم تمكن من تقديم خطاب سياسي مغاير لخطاب أردوغان الشعبوي من دون تجاهل قاعدة حزب العدالة والتنمية المحافظة، وقد ساعدتهم هذه المقاربة على توسيع حضورهم بالسحب من رصيد الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
تفكك العدالة والتنمية: تنذر الاستقالات التي يشهدها العدالة والتنمية بمخاطر على موقع الحزب ومستقبله؛ إذ يرشح أن يؤدي تصاعد الانشقاقات داخل الحزب إلى تفككه، لا سيما أن الكيانات الحزبية المنافسة المنتظر قدومها على الساحة التركية قد تستقطب عددا معتبرا من النواب المحسوبين على العدالة والتنمية في الوقت الراهن، خصوصا أنها تتبنى السردية نفسها التي تبناها حزب العدالة والتنمية في أيامه الأولى، "أحزاب ديمقراطية محافظة لكل تركيا".
تكريس الانقسامات الاجتماعية والسياسية: ربما تؤدي الاستقالات المتتالية داخل حزب العدالة والتنمية إلى تصاعد الانقسامات الاجتماعية والسياسية، خاصة أن الرئيس التركي يصر على توصيف المنشقين وأتباعهم عن الحزب بالخونة والمارقين، وتوعد عبدالله جول وأحمد داود أوغلو وعلي باباجان، ومن يؤيدونهم داخل الحزب قائلا: "سيدفعون ثمن ذلك باهظا".
aXA6IDMuMTMzLjEwNy4xMSA= جزيرة ام اند امز