ثمة من بات يتحدث بقوة عن تكلفة الحروب العدوانية لأردوغان في ليبيا وسوريا والعراق والقوقاز وتصعيده في شرق المتوسط.
"إنه الاقتصاد.. يا أبله أو يا غبي"، الشعار الشهير الذي هزم به الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون منافسه بوش الأب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وبات دارجا الاستخدام لاحقا في الأزمات السياسية التي لها طابع اقتصادي، عبارة تذكرتها، عندما قرأت في الصحف التركية قبل أيام، أرقام العجز في موازنة تركيا لعام 2021، إذ بلغت حسبما قدمته حكومة أردوغان إلى البرلمان أكثر من أربعة وثلاثين مليار دولار، رقم يثير الفزع، ويطرح مئات الأسئلة عن المستقبل الاقتصادي لتركيا، والأفظع أن الموازنة تشير إلى أن سد العجز سيكون من الضرائب، وهو ما يعني محاصرة المواطن التركي بما تبقى له من قوة شرائية تعينه على لقمة العيش، كل ذلك وسط مؤشرات سلبية للغاية، حيث أرقام التضخم والبطالة في ازدياد، وانهيار لقيمة العملة التركية أمام الدولار، وهروب للاستثمارات إلى الخارج، وتوقف للمشاريع الكبرى، وإفلاس الشركات والمصانع، وتضارب في السياسات الاقتصادية والنقدية، وزيادة كبيرة في الديون الداخلية والخارجية، وسط استحقاق دفع مبالغ كبيرة على الديون، وفقدان للثقة... مؤشرات تدفع بكثيرين إلى طرح السؤال الأساسي، هل ينهار الاقتصاد التركي؟
سؤال بات يطرح بقوة هذه الأيام بعد سنوات من الحديث عن ( المعجزة الاقتصادية التركية )، وفي الوقت نفسه، يثير الكثير من الجدل في الأوساط التركية، حول الأسباب والتداعيات والخطط الإنقاذية، بين من يراهن على سياسة أردوغان وصهره بيراءت ألبيرق لإنقاذ البلاد من أزمتها الاقتصادية والمالية، وبين من يحمل أردوغان المسؤولية المباشرة عن كل ما حصل، ويقول إن وصفاته الشعبوية، وتدخله الفظ في السياسة النقدية، وإصراره على تخفيض البنوك للفائدة رغم رفض رئيس البنك المركزي ذلك ... هي أسباب تقف وراء هذا المشهد السوداوي الذي يوحي بانهيار أكيد، وأبعد من ما سبق، ثمة من بات يتحدث بقوة عن تكلفة الحروب العدوانية لأردوغان في ليبيا وسوريا والعراق والقوقاز وتصعيده في شرق المتوسط، وتدخله في شؤون دول الخليج العربي، وهي سياسة باتت ترتد على الداخل التركي، وليس أدل من ذلك، حملات المقاطعة الشعبية الواسعة التي بدأت تنتشر في عدد من الدول الأوروبية والعربية، وهي حملات تثير الرعب لدى الشركات التركية وسط خشيتها من الإفلاس والانهيار، رغم كل محاولات إعلام حكومة حزب العدالة والتنمية التضليل، ورسم صورة وردية للاقتصاد التركي، إلى درجة أن الأمر وصل بها للقول إن الدول التي ستقاطع البضائع التركية ستنهار بسبب المقاطعة!
تتداخل جملة من العوامل الداخلية والخارجية لتؤثر معا على الاقتصاد التركي الذي بات كل يوم يستقبل إشارة جديدة تدق ناقوس الخطر، فبسبب انهيار العملة التركية خسر المواطنون الأتراك معظم مدخراتهم، ولا يجد أردوغان أمام ذلك سوى دعوة الأتراك إلى تحويل أموالهم من العملات الأجنبية إلى العملة الوطنية، وهو إجراء وجد كثيرون أنه لن يؤدي سوى إلى تعميق الأزمة لطالما أن التصدي للأزمات الاقتصادية لا يقوم على مثل هذه الدعوات الشعبوية، وإنما بسياسات تتوافق مع قواعد الاقتصاد الدولي والعوامل المؤثرة فيه. في قراءة لأسباب الأزمة الاقتصادية التركية، ثمة من يرجعها إلى جملة من الأسباب الرئيسية، لعل أهمها :
1- أن السبب الأساسي "للمعجزة" الاقتصادية التركية خلال العقد الأول من حكم حزب العدالة والتتمية كان الاستثمار، إذ شكل هذا الاستثمار بشقيه الداخلي والخارجي نحو 75 بالمئة من حركة الاقتصاد التركي، وقد تم توظيف معظم هذه الاستثمارات في المشاريع العقارية والعمرانية والخدمية الضخمة، ومع أن هذا الاستثمار حقق قفزة نوعية في هذه المجالات إلا أنه بات يتراجع بشكل كبير بسبب عدم الاستقرار، إذ تشهد تركيا حركة هروب للاستثمارات على خلفية التطورات الأمنية، حيث حملات الاعتقال ضد كل من يناهض سياسة أردوغان تتواصل، والحرب ضد الأكراد في أوجها.
2- تدخل السلطة السياسية في السياسة النقدية والمالية للدولة، وقد وصل هذا التدخل إلى صدام مباشر بين أردوغان والبنك المركزي الذي أراد رفع نسب الفؤائد فيما أجبره أردوغان على خفضها، وهو ما خلق المزيد من التوتر في العلاقة بينهما، وأدى إلى المزيد من انهيار قيمة العملة التركية والتضخم والمديونية.
3- تداعيات الحروب التركية في الخارج، فمن سوريا إلى ليبيا، مرورا بكردستان العراق، وصولا إلى القوقاز، تغرق تركيا في حروب لا تنتهي، وتكلف الخزينة التركية أمولا كبيرة، لم يعد بمقدور الاقتصاد التركي تحملها، وفي كل هذا لا يجد أردوغان أمامه سوى ابتزاز قطر وحكومة الوفاق في ليبيا بزعامة السراج للحصول على المزيد من الأموال لتمويل حروبه التي تقوم على المرتزقة بالدرجة الأولى، وتركيا بحروبها هذه خسرت أسواقا وممرات تجارية كثيرة، ولاسيما سوريا التي كانت تشكل جسرا بريا لمنتجاتها إلى دول الخليج العربي ومصر والأردن، كما أنها بصدامها مع مصر في عهد الرئيس السيسي خسرت قدرات تسويق منتجاتها إلى الأسواق الأفريقية بشكل كبير.
4- أن الاقتصاد التركي هو من الاقتصادات الناشئة، ومثل هذه الاقتصادات سرعان ما تتعرض لهزات مالية كبيرة بسبب أسعار الدولار وموارد الطاقة التي تشكل عصب الاقتصاد العالمي، إذ من شأن ارتفاع سعر الدولار كما هو حاصل حاليا، زيادة تكلفة الاستيراد التي تقول التقارير إنها خلال العامين الماضيين زادت بنسب خالية مقابل تراجع نسبة الصادرات، وهو ما أدى إلى انكشاف المزيد من مواطن الخلل في الاقتصاد التركي، وقد تجلى هذا الأمر بشكل كبير في تراجع التصنيف الائتماني للاقتصاد التركي من قبل الوكالات الدولية، ورفع كلفة الديون الخارجية التي تجاوزت أربعمئة وثلاثين مليار دولار، وسط صعوبة خدمة إيفاء هذا الدين، والأهم تعرض حجم الدخل الوطني المقدر بنحو 800 مليار دولار للتراجع بحيث أصبح قيمته قرابة النصف حسب قيمة العملة التركية، وهو مسار خطر قد يخرج تركيا من مجموعة الدول العشرين.
في الواقع، ثمة إجماع على أن الاقتصاد التركي في مأزق كبير، ومن هذا المأزق، يطرح السؤال عن من ينقذه من سطوة السياسيين، في وقت يرى المحللون أن النظام الرئاسي بزعامة أردوغان هو الذي أوصل الأمور إلى هذه النطقة، دون أن يمتلك برنامجا حقيقيا للخروج منه، والسؤال الأساسي إلى متى سيتعامل أردوغان بعقلية السلطان مع هذه الأزمة التي تتفاقم يوما بعد آخر؟ ثمة من يقول إنه لم يعد هناك متسع للإصلاح خاصة وأن أردوغان يصر على الاستمرار في سياسته إلى النهاية، ويرى هؤلاء أن أردوغان بنهجه هذا يسير نحو حتفه في الانتخابات المقبلة كما يسير بالاقتصاد التركي إلى انهيار كبير، وأن كل ذلك سيصرف في الانتخابات المقبلة، نعم إنه "الاقتصاد يا أبله".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة