أردوغان يعيد ذاكرة غدر أجداده.. 4 "انقلابات قصر" للسلطان الزائف
نجم الدين أربكان، عبد الله جول، داود أوغلو، فتح الله كولن.. شهود على احتفاظ أردوغان بتراث أجداده في الغدر بأخلص خلصائه لأجل العرش.
لم تحفل فترة من فترات تاريخ المسلمين بكم الانقلابات الداخلية والدموية مثل تلك التي شهدتها قصور السلطنة العثمانية، ولم يكن مبالغا من وصف حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم وزعيمه رجب طيب أردوغان بأنهم "العثمانيون الجدد"؛ كونه كرر، ولكن بشكل احترافي، تلك الانقلابات وعمليات الغدر بأخلص خلصائه.
وتاريخ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يرتدي ثوب السلطان الزائف، حافل بحوادث الغدر بحلفائه وأصدقائه، وليس فقط بشعوب المنطقة التي في لحظة غفلة طويلة صدقت أنه يختلف عن أجداده الغابرين الغادرين، ومن أشهر هؤلاء أستاذه رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان، وأصدقاء مشواره السياسي فتح الله كولن، وعبد الله جول، وداود أوغلو.
نجم الدين أربكان
ظهر الخلاف بين أربكان، زعيم حزب الرفاة المنحل، وتلميذه أردوغان للعلن في بداية التسعينيات، مع توجه أردوغان إلى "التورية"، عبر محاولة إخفاء انتمائه لجماعة الإخوان الإرهابية، ومحاولة إظهار "انفتاح" على التيارات الأخرى في المجتمع التركي، على عكس أربكان الذي كان يفاخر بانتماءاته الدينية بلهجة تحدٍّ للسلطات.
وتخلى الخلاف بداية في إدارة الحزب الداخلية؛ حيث كان أردوغان يستغل نجاحه كعمدة لإسطنبول في محاولة منافسة أستاذه في فرض نفوذه على أعضاء الحزب وجمهوره.
وقدم أردوغان نفسه لجمهور الحزب على أنه "أكثر ديمقراطية وأكثر إيمانا بالتنوع" من أستاذه أربكان، في محاولة لكسب أصوات تيارات أخرى، بما فيها غير المحجبات وغير الملتحين وحتى رواد محال الخمور، خلال الانتخابات المحلية والتشريعية.
وجاءت محاولة الانقلاب العسكري الناعم عام 1997 الذي أجبر أربكان على الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء لتكون هدية لأردوغان؛ ليقدم بها أربكان بشكل مباشر على أنه خطر على الحزب، لأن سياساته الدينية الصارمة تتسبب كل فترة في غضب الجيش وحدوث انقلابات.
وتسبب هذا الحدث في حل حزب الرفاة الذي كان يتزعمه أربكان، وأردوغان من أبرز قيادييه، والزج بالأخير إلى السجن، فاكتسب تعاطفا جماهيريا واسعا بصفته "مناضل" من أجل "الديمقراطية" و"الحريات الدينية".
وفي غضون ذلك اشتد الخلاف بين فريق أربكان وفريق أردوغان داخل حزب الفضيلة الذي تأسس خلفا للرفاة حول التوجهات والإدارة، وبات محتما أن الفريق الأخير سينشق ليؤسس حزبا جديدا حمل اسم حزب العدالة والتنمية، مقدما نفسه بصفات "المعتدل" والمتقارب مع الغرب، وحامل حلم تركيا في الوصول إلى الاتحاد الأوروبي.
وساعد على هذا الانشقاق قرار المحكمة الدستورية في 2001 بغلق الحزب، ولم يخفِ أردوغان سعادته بغلق الحزب قائلا: "لو لم يغلق حزب الفضيلة لما كنا قد انفصلنا بسهولة أبدا".
وحملت سمعة "المعتدل" التي صنعها أردوغان لنفسه حزب العدالة والتنمية رغم حداثته إلى الحكم عام 2002 بعد فوزه المفاجئ بالأغلبية في الانتخابات التشريعية؛ ليشكل حكومة منفردة لأول مرة منذ سنوات في تركيا التي اعتادت على الحكومات الائتلافية.
ومنذ ذلك الحين توارى أربكان إلى حد كبير عن الساحة، وبعد عودته للظهور كان كلامه يقطر غضبا وسخطا على "غدر" تلميذه به، حتى إنه قال في تصريحات لصحيفة "توداي زمان" عام 2010، إن أردوغان وصديقه عبد الله جول "أداة بيد المؤامرة الصهيونية"، بل اتهم حزب العدالة والتنمية بأنه وصل بسهولة للسلطة بمساعدة من الحركة اليهودية العالمية.
واستدل أربكان على ذلك بأن أردوغان وافق على منح إسرائيل العضوية الكاملة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (ocde) بدلا من وضع فيتو على عضويتها فيها، ودفعت حكومته مليارات الدولارات في عقود عسكرية مع شركات إسرائيلية.
عبد الله جول
وكان تأسيس حزب العدالة والتنمية ليكون أردوغان زعيمه المطلق خطوة في طريق حلم كبير بأن يكون أردوغان هو الزعيم الأوحد لتركيا جميعها وليس فقط الحزب.
فقد اجتهد في تحويل نظام الحكم من برلماني، كان فيه لمدة 12 عاما أردوغان رئيسا للوزراء، في حين صديقه عبد الله جول رئيسا للبلاد بصلاحيات محدودة في آخر 7 سنوات منها، إلى نظام رئاسي، أصبح فيه أردوغان بداية من 2014 رئيسا للبلاد، ولكن بصلاحيات كاملة.
وبعد الوصول إلى هذه القمة بدأ أردوغان في التخلص من أصدقائه المقربين المنافسين له في قيادة الحزب، وعلى رأسهم جول، ثم داود أوغلو، حتى لا تكون لهما فرصة في منافسته خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وفي 2015 ظهرت بشدة الخلافات بين أردوغان وجول، حين انتقد الأخير سياسات أردوغان العدائية إزاء مصر وليبيا وعدة دول عربية، فهو وإن كان مع سيطرة تركيا على المنطقة، ولكن كان يفضل أسلوبا أكثر نعوما من أسلوب أردوغان.
وقال جول حينها إن بلاده تحتاج إلى مراجعة سياستها في الشرق الأوسط.
وجاء الرد عليه عنيفا وغير متوقع من أردوغان الذي وصفه بـ"الجبان والخائن".
وقال في ذلك: "تركنا وراءنا الخونة والجبناء والمترددين والمتمسكين بمصالحهم الشخصية في عالم السياسية، وأكملنا طريقنا السياسي دون تغيير، أما هم فباتوا اليوم خارج السياسة".
وكان من يشاهد جول وأردوغان قبل ذلك يحسبهما صنوانا لا يفترقان، حتى إن جول تنازل لأردوغان عن منصب رئيس الوزراء بعد خروج الأخير من السجن قبل نحو 10 أعوام.
وفي 2016 ألقت وحدة "مكافحة الإرهاب" القبض على 6 رجال أعمال مقربين من جول في منطقة واسط التركية.
ومنذ ذلك الحين صنف البعض جول في جانب المعارضة، حتى إن النائب عن حزب الشعب الجمهوري المعارض، دنيز بايكال، طرح اسمه في العام الجاري كمرشح محتمل عن المعارضة في الانتخابات التركية المرتقبة 2019 أمام أردوغان.
داود أوغلو
وبالتزامن مع هذا التصدع بين أردوغان وجول، بدأت عملية استبعاد صديقه وصنوه الآخر داود أوغلو.
وداود أوغلو شغل منصب وزير الخارجية لعدة سنوات في حكومة أردوغان، وهو صاحب، سياسات ومبادئ أحدثت دويا في عصر أردوغان، وحسنت كثيرا من سمعة تركيا في العالم، منها سياسة "صفر علاقات"، أي إزالة أي خلافات قديمة بين تركيا وجيرانها والعالم كله، وقدمت تركيا نفسها في هذه السياسة أيضا على أنها وسيط "نزيه" لحل مشاكل المنطقة.
وكان ذلك قبل عام 2011، العام الذي بدأ يتضح فيه زيف هذه السياسة، وأنها كانت مجرد غطاء لتغلغل الأتراك سياسيا واقتصاديا وثقافيا عبر المتاجرة بقضية فلسطين والصفقات التجارية وإلغاء التأشيرات ورجال الأعمال والمسلسلات بين شعوب المنطقة، ثم يتضح أنها تساعد الجماعات الإرهابية على تفتيتها من الداخل باسم الثورات أو تغيير نظام الحكم.
وعقب فوز أردوغان بمنصب رئيس تركيا 2014 تولى داود أوغلو رئاسة الحكومة بدلا منه، ومنذ ذلك الوقت تفجرت الخلافات، والتي ظهرت إلى العلن في مارس/آذار 2015 حين خرج نائب رئيس الوزراء بولنت أرينش، المقرب من داود أوغلو، ليوجه انتقادا علنيا لأردوغان ردا على انتقاد الأخير لأداء الحكومة في الملف الكردي، واتهامه لها بأنها تتخذ خطوات من وراء ظهره.
وقال أرينش حينها إن الرئيس يعلم كل شيء، والحكومة لا تتصرف من دون علمه أبدا. لا يمكنه أن يدّعي عدم العلم بهذا الأمر وهو يجمعها في قصره كل شهر، مطالبا أردوغان بوقف انتقاداته المتكررة للحكومة.
وكان داود أوغلو قد أبدى عدم تشجيعه للتسرع في تحويل نظام الحكم إلى النظام الرئاسي، إضافة إلى قيام أردوغان بسحب صلاحية تعيين مسؤولي الحزب في الأقاليم من يده.
وفي 2016 تمت كتابة النهاية، فقد عقد داود أوغلو مؤتمرا صحفيا أعلن فيه استقالته من المنصب، وهي ما وصفتها وسائل إعلام تركية بأنها "إقالة" أكثر منها مجرد استقالة عادية.
وتعقيبا على ذلك قال رئيس البرلمان إسماعيل كهرمان المقرب من أردوغان إن "سيارة يقودها سائقان لا يمكن أن تتجنب الحوادث".
وعلق رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال قليتش، على ذلك بقوله: "استقالة داود أوغلو يجب ألا ينظر إليها على أنها شأن حزبي داخلي، فكل أنصار الديمقراطية يجب أن يرفضوا انقلاب القصر هذا". مستدعيا بذلك انقلابات القصور المعتادة في التاريخ التركي.
فتح الله كولن
على الرغم من عمق الصلة القديمة بين أردوغان وأربكان، وبينه وبين جول وداود أوغلو؛ فإنه ليس لأحد فيهم فضل مثل الذي لفتح الله كولن عليه.
وفتح الله كولن هو داعية يحمل نفس أيديولوجية أردوغان الدينية، وله ولاء لمرشد الإخوان حسن البنا، ولكنه يمارس فكره عبر مجالات الثقافة والتعليم والاقتصاد، الذين رأى أنهم الأفضل لنشر فكره وسحب المجتمع من يد الأتاتوركيين العلمانيين، بدلا من الصدامات السياسية التي غرق فيها أربكان.
وعلى هذا أنشأ سلسلة كبيرة من المدارس والجامعات ووسائل الإعلام ولجمعيات الثقافية والخيرية، وعضدها بإمبراطورية اقتصادية واسعة داخل وخارج تركيا في إطار حركة أطلق عليها "خدمة".
ووصل نفوذ تلك الحركة إلى أن توغلت داخل مؤسسات الجيش والشرطة والتعليم الحكومي وكل المؤسسات الحكومية عبر أعضائها الذين نجحوا في التسلل إلى تلك المؤسسات والوصول إلى مناصب مهمة.
وتحالف مع أردوغان خلال صدام الأخير مع أربكان، على الوصول إلى الحكم تركيا، على أن يكون لأردوغان الشق السياسي، فيما يتولى كولن حشد التأييد له داخل المجتمع عبر مؤسسات الإعلام والتعليم والثقافة التابعة له، إضافة إلى دعم حملاته الدعائية من بوابة الإمبراطورية الاقتصادية لحركة "خدمة".
وكان لكولن الفضل الكبير في الوصول السريع والمفاجئ لحزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2002، وظل التحالف بين الاثنين قائما لسنوات، إلى أن قرر أردوغان الاستفراد بحكم تركيا، فأطلق حملة شعواء على حركة "خدمة"، متهما إياها بتأسيس دولة داخل الدولة وتنظيم موازٍ لقلب نظام الحكم.
ثم ألصق بها تهمة المحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا 2016، وشن ضد كل المنتمين لحركة "خدمة" حملة اعتقالات وحملة فصل من الوظائف طالتا مئات الآلاف.
وبهذا طبق أردوغان عكس سياسة حليفة السابق، داود أوغلو، المسماة بـ"صفر مشاكل"، بأن أصبح "منبع للمشاكل" سواء لحلفائه في الداخل، أو للدول العربية، والتي دفعت ثمنا باهظا لنسيانها نحو 400 عام كاحلة السواد من الاحتلال العثماني والحقد الكبير الذي صبه على شعوب المنطقة، حين فتحت أبوابها واسعة للأتراك مجددا.