مع الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي وكثافة وسهولة استخدامها بين مختلف فئات المجتمع،برزت على السطح الكثير من التأثيرات.
خلال الأسبوعين الماضيين، انشغل الناس في مصر تحديدا بمقطعي فيديو أشعلا مواقع التواصل الاجتماعي، وخلقا تساؤلات ظلت تبحث عن أجوبة. الفيديو الأول، لراقصة برازيلية دخلت في وصلة رقص حين كانت في أحد صالونات التجميل، الفيديو الثاني لشاب يؤدي مقاطع ساخرة تحدث عن إذاعة القرآن الكريم، وأداء مذيعيها، هذان المقطعان أحدثا استغرابا بل وقلقا عند البعض، خصوصا أولئك الذين ربطوا بين انتشار وجماهيرية هذه الفيديوهات، وبين كونها معيارا لما وصلت إليه منظومة الأخلاق في المجتمع.
ما الذي يجعل راقصة تحظى بكل هذه المتابعة والمشاهدة؟
وما الذي يجعل شابا يسخر من إذاعة القرآن الكريم، التي ارتبطت في وجدان الشعب بكامله كقيمة أخلاقية ودينية؟ مما لاشك فيه أن "وسائل التواصل الاجتماعي"، شئنا أم أبينا أصبحت موجودة، لا يملك لأحد أو يدعي آخر أنه قادرا على منعها أو حتى السيطرة عليها، وبالتالي هي تمثل في منظومة القيم الأخلاقية العربية السهل المتاح، لذا تتحول عند الباحثين والمهتمين إلى معيار كاشف وترمومتر عندما وصلت إليه الأخلاق ومنظومة القيم. بالتالي يقر الجميع أنهم لا يقدرون على المنع، وإنما يقدرون فقط على التأمل والبحث والدراسة.
من هذا المنطلق يصبح المقطعان محل النقاش مرآة كاشفة للمخفي من الميل الأخلاقي في مجتمعنا العربي بشكل كامل. ميل الشباب للراقصة، يكشف كم الكبت الذي وصل إليه المجتمع، وهذا ليس جديدا في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، التي يتسم أغلبها بالمحافظة، لكن في هذه الحالة ثمة انجراف أكبر، يستوجب وقفة تأمل ودراسة فكثير من المجتمعات بدأت تتحرر من انغلاقها، والممنوع على التلفزيونات والسينمات أصبح متاحا ومباحا على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا الدول التي مازالت لم تحجب المواقع الإباحية على شبكتها.
إذا هناك أفق آخر يمكن أن نرتاده بحثا عن مبرر، هذا الاشتعال السيبراني لفيديو راقصة بملابسها العادية. هذا الأفق هو البحث عما يمكن الانشغال به، وهذا كلام قد يكون خطيرا لأنه يؤكد على أن هناك فراغا لدى الجماهير في تبني قضية ما أو أمرا ما أو أن هناك إحباطا من المتاح والمعروض من وسائل الإعلام . وحالة الانفضاض عن المتاح والمعروض والمقدم في وسائل التواصل الاجتماعي قد يخلق انشغاله بما هو أسوأ كوسيلة اعتراض جماهيرية غير مرتبة وغير مقصودة .
المعيار الآخر الذي يخرج من مشاهدة الفيديو الساخر من إذاعة القرآن الكريم، يمكن أن نستخلص منه ميل الجيل الجديد نحو نموذج التلقين الدعوي الصريح والمباشر من وسائل الإعلام التقليدية مثل الإذاعات والبرامج التلفزيونية.
وهذا يستوجب من القائمين على إذاعة القرآن الكريم وعلى إدارة البرامج الدينية في التلفزيونات العربية، أن يبحثوا فعلا عن أسلوب جديد للوصول إلى الجيل الجديد الذي أبدى سخريته من أداء مذيعي إذاعة القران الكريم، وهم زملاء أعزاء لهم كامل الاحترام والتقدير على عطائهم وجهودهم الذي امتد لعقود طويلة وتربطني بهم صلة واحترام .
في هذه النقطة لسنا أمام جيل تحركه رغبات وكبت كما كان في فيديو الراقصة، وإنما أمام جيل رافض متمرد على طريقة التلقين الدعوي الديني ويجب الالتفات إلى غضبه باعتباره مؤشرا يستوجب التغيير.
لقد مر الأداء الدعوي الرسمي الكلاسيكي بمراحل كثيرة حتى وصلنا إلى ظاهرة الدعاة الجدد، التي بدأت مع نهاية التسعينات وبداية 2000 ، وكان لها وقتها نجومها وبعد البحث في تفسير زيادة جماهيريتهم خلصنا إلى أن الطريقة وحدها هي التي كانت لافتة، فالدعاة الجدد كانوا يلبسون ملابس عادية حليقي الذقن، لا يتكلمون الفصحى المقعرة، قدموا رسالة دعوية بسيطة وسهلة، حتى لو كانت سطحية في كثير منها. بالتالي التف الشباب حولهم، طبعا هناك الكثير من الآثار السلبية التي خلقها تيار الدعاة الجدد، وهو تسطيح الدين مما سهل على تيارات الإسلام السياسي ملؤه بأفكار خاطئة ومتشددة.
لكن يمكن القول إنه آن الأوان لأن تكون هناك مدرسة دعوية بين الاثنين، تتخطى ظاهرة الدعاة الجدد وتتخطى ظاهرة الأداء الدعوي الكلاسيكي المقعر القديم، تحتاج مدرسة دعوية تتماهى في بساطتها مع بساطة الحياة، وتتماهى مع عقلية المتلقي وتنزل إليه لترفعه معها ولا تقف في الأعلى وتطالبه أن يصعد إليها وهو لا يملك سلما ولا مصعدا كهربائيا. في محصلة التعامل مع هذين المقطعين، لا يجب أن نكون كارهين للوسيلة ولا منتقدين لمن استخدمها.
لا نكره السوشيال ميديا، ولا نشيطنها، ولا نزدري من ارتاد هذه الوسيلة باعتباره فاجرا أحيانا وعديم الأخلاق أحيانا أخرى، وإنما على الجميع أن يعتبروا وسائل التواصل الاجتماعي "اسكانر أو أشعة مقطعية على الأخلاق في مجتمعاتنا"، لنعرف إذا كانت مصابة أو ضربها ورم عضال؟ وهنا سنكتشف أنها أفادت أكثر ما أضرت، وقدمت للجميع خدمة ما كنا نعرفها بدونها، الخلاصة أن مجتمعاتنا مريضة أخلاقيا، بل إنها في حالة مرضية شديدة تحتاج طبيبا مخلصا، يضع لنا خطة النجاة بما تبقى من موروث أخلاقي.
وإذا كانت الأخلاق هي مجموعة القيم التي يعتبرها الناس جالبة للخير وطاردة للشر، فعلى الجميع خصوصا المؤسسات في الدولة أن تعيد تدريس مادة الأخلاق في مدارسها، وأن تتدخل بحكمة العاقل لا بمقص الرقيب في متن الرسالة الدرامية والإعلامية التي تقدم على تلفزيوناتنا وإعلامنا و"درامتنا" والسينما أيضا .
لقد مرت المجتمعات في العشرين عاما الماضية بحالة انقلاب للمعايير الأخلاقية، وللأسف لعبت السينما والدراما دورا مخربا، في إعلاء قيم البلطجة، والجهل، والصفاقة، والقبح، لقد تم تسويق نموذج البطل الذي لا يهزم، بطل لا يملك إلا البلطجة والقتل.
إن انهزام نموذج البطل الخلوق في المجتمع خلق جيلا يسعى لتقمص دور البطل المنتصر حتى لو كان بلطجيا وبلا أخلاق .
حين تحدث المفكر الكبير الراحل محمد عابد الجابري، في كتابه "نقد العقل الأخلاقي العربي" باعتباره الجزء الرابع في مشروعه الطموح نقد العقل العربي.
أشار الجابري، إلى نقطة شديدة الأهمية، كثير من المؤثرات الخارجية أثرت في منظومة الأخلاق العربية، منها المؤثر الفارسي وتجلى في قيمة الطاعة، والعقل الإغريقي وتجلى في قيمة السعادة، أما العقل الأخلاقي العربي فتجلى في قيمة المروءة وهذا يكفي، والعقل الأخلاقي الإسلامي تجلى في قيمة العمل الصالح وهذا يكفي.
فكيف لنا أن نتمسك بأهم قيمتين في عقلنا الأخلاقي العربي والإسلامي، المروءة والعمل الصالح.
ما تكشفه لنا مؤشرات وسائل التواصل الاجتماعي، تؤكد لنا أن هاتين القيمتين تبخرتا، ضاعتا فما عادت هناك مروءة بالمعنى المتعارف عليه، وما عاد هناك عمل صالح بالمعنى الذي يكفي .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة